جعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة، وجعل الأبحر السبعة مملوءةً مدادًا، فهي تصب فيه مدادها أبدًا صبًّا لا ينقطع. والمعنى: ولو أنّ أشجار الأرض أقلاٌم، والبحر ممدوٌد بسبعة أبحر، وكتبت بتلك الأقلام وبذلك المداد كلمات الله، لما نفدت كلماته ونفدت الأقلام والمداد، كقوله تعالى (قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي)] الكهف: ١٠٩ [فإن قلت: زعمت أنّ قوله: (وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ) حال في أحد وجهى الرفع، وليس فيه ضمير راجع إلى ذى الحال. قلت: هو كقوله:
وقد اغتدى والطّير في وكناتها
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يزيدُ في المبالغةِ، وهو تصويرُ الإمدادِ المستمرِّ حالاً بعد حالٍ، وتعليقُ ﴿مِن بَعْدِهِ﴾، وذكر السَّبعة؛ ليكون على وِزانِ قولِه: ﴿وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ﴾ [الأنعام: ٣٨] في إفادة الشُّمولِ والإحاطةِ، وإليه الإشارةُ بقوله: ((فهي تَصُبُّ فيه مِدادَها أبدًا صَبًّا لا ينقطعُ)). ولو قيل: ((والبحرُ مِدادًا)) لم يُفِد هذه الفائدةَ.
قوله: (وكُتِبَتْ بتلك الأقلام وبذلك المِدادِ كلماتُ الله) يشير إلى أنَّ في الكلام حذفًا.
قال ابنُ جنّي: في الآية حذفٌ تقديرُه: فكُتبتْ بذلك كلماتُ الله ما نَفِدَتْ، فحُذِفَ لدلالةِ الكلامِ عليه؛ كقولهِ تعالى: ﴿مَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّاسِهِ فَفِدْيَةٌ﴾ [البقرة: ١٩٦]؛ أي: فحَلَقَ فعَلَيْه فِدية، فاكتفى بالمُسَبِّبِ- وهو الفِدْية- عن السَّببِ وهو الحَلْق.
قوله: (وقد أغتَدي والطَّيرُ في وُكُناتِها) تمامُه:
بمُنْجَرِدٍ قَيْدِ الأوابدِ هَيْكَلِ
قولُه: الاغتداءُ: الغُدوُّ. والوُكْنَةُ: موقعة الطَّير. وانجَردَ في سيره؛ أي: مضى، أي: أن المنجردَ لسرعتِه يقيِّدُ الوحشَ لا يدعُه يبْرحُ، والهيكلُ مِن الخيلِ: الفرَسُ الطَّويلُ الضَّخمُ،


الصفحة التالية
Icon