قلت: الكلمات جمع قلة، والموضع موضع التكثير لا التقليل، فهلا قيل: كلم الله؟ قلت: معناه أنّ كلماته لا تفي بكتبتها البحار، فكيف بكلمة؟ وعن ابن عباس رضى الله عنهما: أنها نزلت جوابًا لليهود لما قالوا: «قد أوتينا التوراة وفيها كل الحكمة»، وقيل: إن المشركين قالوا: إنّ هذا -يعنون الوحي- كلام سينفد، فأعلم الله أن كلامه لا ينفد. وهذه الآية عند بعضهم مدنية، وأنها نزلت بعد الهجرة، وقيل هي مكية، وإنما أمر اليهود وقد قريش أن يقولوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم: ألست تتلو فيما أنزل عليك: أنا قد أوتينا التوراة وفيها علم كل شيء. (إِنَّ الله عَزِيزٌ) لا يعجزه شيء (حَكِيمٌ) لا يخرج من علمه وحكمته شيء، ومثله لا تنفد كلماته وحكمه.
[ما خَلْقُكُمْ وَلا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِير)] ٢٨ [
(إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ) إلا كخلقها وبعثها؛ أى: سواء في قدرته القليل والكثير، والواحد والجمع، لا يتفاوت، وذلك أنه إنما كانت تفاوت النفس الواحدة والنفوس
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (إنَّ هذا- يَعنونَ الوحْيَ- كلامٌ سينفَدُ) فسَّر هذا بالوحي دون القرآنِ؛ لأنّ الوحيَ غيرُ نافذٍ والقرآنُ نافذٌ عندَه، ومَنْ قال: المُشارُ إليه القرآنُ؛ أراد أنَّ مدلولَه لا يَنفدُ، وهو الكلام النَّفْسيُّ.
قوله: (ومثلُه لا تَنفَدُ كلماتُه وحِكَمُه)، ((مِثْلُ)) هاهنا كناية؛ نحوُ: مِثْلُك لا يَبخلُ، ليس هذا إثباتَ مِثْلٍ، وإنَّما المرادُ أنت لا تبخل، فقوله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ كالتَّعليلِ لإثبات العِلمِ الواسع، كأنَّه قال: لانفادَ لعلمِه الواسع؛ لأنَّ المعلوماتِ إمّا كثيفةٌ تحتاج في إدراكها إلى علم متينٍ، فهو عزيزٌ لا يُعجِزُه شيءٌ عمّا يُريدُه، وإمّا لطيفةٌ يَفتقِرُ لإدراكِها إلى عِلْم دقيق، فهو حَكيمٌ يُدركُ بدقيق حكمتِه تلك المعانيَ والجواهرَ اللَّطيفةَ، فتكون الفاصلةُ كالتَّتميمِ لِما سَبقَ؛ لأنَّ بعض التعليلِ يُجاء به للمبالغة والتَّأكيدِ، ولذلك قالتِ الفقهاء: تَعليلُ الحَكيمِ يفيده تأكيدًا.


الصفحة التالية
Icon