يَقُولُونَ افْتَراهُ) لأنّ قولهم: هذا مفترى، إنكار لأن يكون من رب العالمين، وكذلك قوله: (بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ) وما فيه من تقدير أنه من الله، وهذا أسلوب صحيح محكم: أثبت أوّلًا أن تنزيله من رب العالمين، وأن ذلك ما لا ريب فيه، ثم أضرب عن ذلك إلى قوله: (أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ) لأن (أم) هي المنقطعة الكائنة بمعنى (بل) والهمزة، إنكارًا لقولهم وتعجيبًا منه لظهور أمره في عجز بلغائهم عن مثل ثلاث آيات منه، ثم أضرب عن الإنكار إلى إثبات أنه الحق من ربك. ونظيره أن يعلل العالم في المسألة بعلة صحيحة جامعة، قد احترز فيها أنواع الاحتراز، كقول المتكلمين: النظر أوّل الأفعال الواجبة على الإطلاق التي لا يعرى عن وجوبها مكلف، ثم يعترض
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وهذا أسلوبٌ صَحيحٌ مُحكَم)؛ لحصول التَّرقِّي في كونه ﴿مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾.
أما الجملةُ الأولى: فبالتَّصريح وتوكيدُها بالجملة المُعتَرِضة، وأمّا الثانيةُ: فلأنَّ الإنكارَ البليغَ والإضرابَ عن الأوَّل يدلُّ على أنَّهم قد أظهروا أمرًا غريبًا يجب أن يُقضى منه العجب، وهو أنَّ أقلَّ سورةٍ منه إذا كان معجوزًا عنه؛ فكيف يُقال لمثلِه: إنه مفترًى، ولهذا قال: ((تعجيبًا منه لظهور أمرِه)). وأما الثالثة فلتصريح ﴿بَلْ﴾ وتعريفِ ﴿الْحَقُّ﴾ الذي هو الخبرُ بلام الجنسِ، وتخصيصُ لفظِ ﴿الْحَقُّ﴾.
وأمّا التخصيصُ بعد التَّعميم؛ أعني: ﴿رَّبِكَ﴾ و ﴿رَّبِّ الْعَالَمِينَ﴾ فللتَّخلص إلى إثبات نبوَّته صلى الله عليه وسلم، والإيذانِ بأنَّ المنزَّل الكائن من جهة مالكِ العالمينَ ومدبِّرِ أمورِ المخلوقاتِ كلِّها هو الثابتُ من جهة مَن هو مالِكُك ومُدبِّر أمرِكَ خاصةً، فدلَّ التخصيصُ بعد التَّعميم على عِظَم شأنِه صلى الله عليه وسلم، ثم التَّصريحُ باسم الذاتِ والحضرة الجامعةِ، وإثبات الخالقيَّة والمدَبِّريَّة بعد الحُكم بإنزال هذا القرآنِ، دلَّ على تعظيم شأنِ هذا المُنزَّلِ والمُنزَّلِ عليه، كأنَّه قيل: هو الحقُّ من ربِّك ذلك الذي خَلق السَّماواتِ والأرضَ، ثمّ استوى على العرش، فهو من باب تَرتُّبِ الحُكم على الوَصْف.
قوله: (النَّظَرُ أوّل الأفعال الواجبة) إلى آخره. قال نجمُ الدِّين الخوارزميُّ في كتاب