وهو الحقيق بأن يحمد ويثنى عليه من أجله، ولما قال: "الْحَمْدُ لِلَّهِ" ثم وصف ذاته بالإنعام بجميع النعم الدنيوية، كان معناه: أنه المحمود على نعم الدنيا، كما تقول: أحمد أخاك الذي كساك وحملك، تريد: احمده على كسوته وحملانه. ولما قال: (وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ) علم أنه المحمود على نعم الآخرة وهو الثواب. فإن قلت: ما الفرق بين الحمدين؟ قلت: أمّا الحمد في الدنيا فواجب؛ لأنه على نعمة متفضٍل بها، وهو الطريق إلى تحصيل نعمة الآخرة وهي الثواب. وأمّا الحمد في الآخرة فليس بواجب؛ لأنه على نعمة واجبة الإيصال إلى مستحقها،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (بجميع النِّعم الدنيوية)، تأويلٌ لقولِه: ﴿مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ﴾ لأنه عبارةٌ عنِ العالَم، كما قالَ المصنِّفُ في قولِه تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ﴾ [آل عمران: ٥]: ((لا يخفى عليه شيءٌ في العالَمِ فعَبَّر عنه بالسماءِ والأرض)).
قولُه: (وأما الحمْدُ في الآخرةِ فليسَ بواجبٍ، لأنه على نعمةٍ واجبةِ الإيصالِ إلى مُستَحِقِّها)، محْضُ التَّقليد. ويردُّه ما روَيْناه عن البُخاريِّ ومُسلمٍ عن أبي هُريرةَ وجابرٍ قالا: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: ((قارِبوا وسَدِّدوا واعلَموا أنّه لن يَنْجُوَ أحَدٌ مِنكم بعَمَلِه)) قالوا: ولا أنْتَ يا رسول الله؟ قال: ((ولا أنا إلاّ أن يتَغمَّدني الله برَحْمتِه))، وفي روايةٍ أخرى لأبي هُريرَة: ((لن يُدْخِلَ أحدًا مِنكم عَمَلُه الجنّة)).
الانتصاف: الحقُّ في الفَرْقِ بين الحمدَيْن: أنّ الأوّلَ عبادةٌ تُكَلَّفُ بها، والثاني لا تكليفَ إنّما هو في الآخرةِ كالأمورِ الجِبِلِّيةِ في الدنيا، كما جاءَ: ((يُلِهَمون التسبيحَ كما يُلْهَمون النفس))، وإلا فكلا النّعمتَينْ فَضْل.