القلب إذا قيل: (عالم الغيب)، فحين أقسم باسمه على إثبات قيام الساعة، وأنه كائن لا محالة، ثم وصف بما يرجع إلى علم الغيب، وأنه لا يفوت علمه شيء من الخفيات، واندرج تحته إحاطته بوقت قيام الساعة -فجاء ما تطلبه من وجه الاختصاص مجيئًا واضحًا. فإن قلت: الناس قد أنكروا إتيان الساعة وجحدوه، فهب أنه حلف لهم بأغلظ الأيمان، وأقسم عليهم جهد القسم، فيمين من هو في معتقدهم مفتر على الله كذبًا، كيف تكون مصححة لما أنكروه؟ قلت: هذا لو اقتصر على اليمين ولم يتبعها الحجة القاطعة
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عِلْمِه شيءٌ لا يَعزبُ عن عِلْمهِ وقْتُ قيامِ الساعة. وأما الاختصاصُ الذي ذكرَ فلزومُه عن ذلك ممنوع.
وقلت: دلّ على الاختصاص قولُهم: ﴿لَا تَاتِينَا السَّاعَةُ﴾ فإنه إنكارٌ لما هو العُمْدَةُ في الإتيانِ بها من العِلمِ بِالكلِّياتِ والجُزئيات والقدرة على المقدوراتِ، فلما أُجيبَ ب ﴿بَلَى﴾ ضُمِّنَ إثباتُ ما نَفوْهما، فخُصَّ بإحدى العُمْدتَيْن لاختصاصِهما بالتهديدِ والوعيدِ للمُكذِّب. وعَمَّ ليدخُلَ فيه ما أُريدَ إثباتُه أوّلَ شيءٍ. والله أعلم.
قولُه: (هذا لو اقتصَر على اليمين ولم يُتبِعْها الحجَّةَ القاطعة)، قال صاحبُ ((الفرائد)): كلامُه مُشْعِرٌ بأنّ اليَمينَ لم تكُنْ مُصَحِّحة، فَوجودها وعَدَمُها سَواء في التصحيح، والتصحيحُ إنّما يكونُ بالحُجّةِ القاطعةِ بَعْدَها، فلزِمَ أن لا فائدةَ في اليمينِ هاهنا، وهذا ممّا لا سبيلَ إليه، وقد مرَّ إعادةَ ما قبلَ الإنكارِ لابُدّ مِنْ أن يكونَ مقترنًا بالقَسَمِ وإلاّ كانَ خطأٌ بحسب علْمِ المعاني، فلما أوجبت الحكمةُ الإعادةَ وجبَ اقترانُها بالقَسَمِ سواءٌ كان القَسَمُ مُصَحِّحًا لِما أنكروهُ أو غَيْرَ مُصَحِّح.
وقلتُ: والعجَبُ مِنْ هاذَيْن الفاضْلَيْن كيف ذَهَلا عن جَدْوي هذه اليمينِ وجَليلِ عائِدتها في هذا المقام! فإنَّهم جَرَّبوه ﷺ ولم يُشاهدوا منه إلا الحقَّ ولم يَسْمعوا منه غَيرَ الصِّدْق، ولهذا سَمَّوْه بالأمين، وما كانَ تكذيبُهم إلاّ عن عِنادٍ ومُكابَرة وحَسَد. يدلُّ عليه


الصفحة التالية
Icon