و (بُعِّد بين أسفارنا) على النداء وإسناد الفعل إلى "بين" ورفعه به، كما تقول: سير فرسخان. و (بوعد بين أسفارنا). وقرئ: (ربنا باعد بين أسفارنا) و (بين سفرنا)، و (بعد) برفع "ربنا" على الابتداء، والمعنى خلاف الأوّل، وهو استبعاد مسايرهم على قصرها ودنوّها؛ لفرط تنعمهم وترفههم، كأنهم كانوا يتشاجون على ربهم ويتحازنون عليه. (أَحادِيثَ) يتحدّث الناس بهم ويتعجبون من أحوالهم، وفرقناهم تفريقًا اتخذه الناس مثلًا مضروبًا، يقولون: ذهبوا أيدى سبا، وتفرقوا أيادى سبا. قال كثير:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وغيرُهما. وقَرأ: ((رَبُّنا باعَدَ بين أسفارِنا)): ابن عباسِ والحسَنُ وغيرهما. أما ((بَعِّدْ)) و ((باعِدْ)) فإنَّ ((بَيْنَ)) منصوبٌ على المفعولِ به، لا على الظرف، لأنه يريدُ: بَعِّد وباعِدْ مسافَةَ أسفارِنا، ولا يريدُ: بَعِّدْ أو باعِدْ فيما بين أسفارِنا، بذلك عليه قِراءةُ مَنْ قَرأ ((بَعُدَ بينُ أسفارنا)) أي: بَعُدَ مدى أسفارنا، فرَفْعُه دليلُ كونِه اسمًا، ولأنّ ((بعَّد)) و ((باعَد)) فِعلانِ مُتعدِّيان، فمفعولُهما معهما.
وكان شيخُنا أبو علي يذهبُ إلى أنّ أصلَ ((بَيْن)) مصدَر: بانَ يَبينُ بَيْنًا، ثم استُعْمِل ظرفًا اتّساعًا وتجوُّزًا، كمَقْدَمِ الحاجِّ، ثم استُعْملت واصلةً بين الشيئين وإن كانت في الأصلِ فاصلة، وذلك لأن جِهتَيْها وصلتا ما يُجاورهما: بهما، فصارت واصلةٌ بين الشيئين، وعليه قراءةُ من قرأ: ((لقد تَقَطَّعَ بَينُكم)) [الأنعام: ٩٤] بالرفعِ أي]: وَصْلُكم.
قوله: (يتشاجَوْنَ على ربِّهم)، الأساس: شَجاه الهمُّ شَجْوًا، وأمرٌ شاجٍ: مَحْزن، وتشاجَتْ فُلانةُ على زوجها: تحازنَتْ عليه، يعني: يُدِلُّون.
قوله: (يقولون: ذَهبوا أيدي سَبا)، وعن بَعْضِهم: المعنى: مِثْل أيدي سبا فتضمَّن المَثَلُ أنّ ((أيدي سبا)) وقع حالاً عن فاعلِ ((ذَهبوا)) وهو مَعرفة، لأنَّ إضافتَه حَقيقيّة. ومن حَقِّ الحالِ أن يكون نكرةً. والتقديرُ مُتَفرِّقين. وسَبا: مهموزٌ في الأصلِ غير أنه التُزِمَ التخفيفُ في