لها). فإن قلت: لا بد للثاني من تفسير، فما تفسيره؟ قلت: يحتمل أن يكون تفسيره مثل تفسير الأوّل. ولكنه ترك لدلالته عليه، وأن يكون مطلقًا في كل ما يمسكه من غضبه ورحمته، وإنما فسر الأوّل دون الثاني؛ للدلالة على أن رحمته سبقت غضبه. فإن قلت: فما تقول فيمن فسر الرحمة بالتوبة، وعزاه إلى ابن عباس رضى الله عنهما؟ قلت:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (فما تَقولُ)، الفاءُ تدلّ على إنكارٍ على الكلامِ السابق، يعني: أنّك إنْ فَسَّرْتَ الرحمةَ بالنعمةِ من الرزقِ والصحةِ والأمنِ وما يتَّصلُ بها فهو صَحيح، لأنّ إمساكَها وإرسالَها مَبنيٌّ على مُراعاةِ الأصْلح، فما تقولُ فيمن فَسَّرها بالتوبة؛ لأنه يعودُ إلى خَلقِ الأفعال. وأنّ الله تعالى إذا فتحَ التوبةَ على أحدٍ فلا مُمْسِكَ لها، وما يُمْسِكُ منها فلا مُرْسِلَ لها، وهذا غيرُ صَحيحٍ لما يلزَم من ذلك انتفاصُ التكليفِ المَبْنيِّ على الاختيار.
فأجابَ بما يُوافقُ مَذَهبَه من التأويل البعيد.
والذي يَسْتدعيه النظمُ: العمومُ في كلِّ رحمةٍ مُختصَّةٍ بالإنسانِ، وذلك أنّه لما بيَّنَ كمالَ قُدرتهِ في خَلْقِ السماواتِ والأرضِ والملائكةِ وغيرِها أتْبعَه أنّه مُولي جميع النِّعمِ على الناسِ ظاهرةً وباطنة، دينيةً ودُنيوية، وكما فُصِّلَتْ تلكَ الآيةُ بقَوْله: ﴿إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ ليدُلَّ على عمومِ المقدورِ وفُصِّلَتْ هذه بقولِه: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ ليدلَّ على شمولِ المعسورِ والمَيْسور، على أنَّ تخصيصَ ذِكْري العزيز والحكيم يُشْعِرانِ بما ذهبَ إليه حَبْرُ الأمة لقولِه: ﴿إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ [المائدة: ١١٨]، لأنه لا يفتَحُ على مَنْ يفتَحُ عليه بالتوبةِ، ولا يُمْسِكُ على مَن يُمسِكُ عليهِ بالتوبةِ، إلا مَنْ ليسَ له فوْقَه أحدٌ يمنَعُه من ذلك، وإلاّ مَنْ عَلِمَ الحكمةَ فيما يفعلُه وإنْ خَفِيَتْ على غيرِه، فالأولُ دلَّ على أنّه الغالب الذي يفعَلُ ما يَشاء في مُلكِه فما يمنعه أحد، والثاني على أنه تعالى عالم بما خَفِيَ على كلِّ أحدٍ فلا يقفُ على أسرارِ حكْمتِه أحد.
فإن قُلت: فما تقولُ في قولِه تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [فاطر: ٣٠]، لأنه خَصَّ فيه النعمةَ الظاهرةَ دون الباطنة؟


الصفحة التالية
Icon