فإن قلت: فما وجه قراءة من قرأ: (إِنَّما يَخْشَى الله مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ) وهو عمر بن عبد العزيز، ويحكى عن أبى حنيفة؟ قلت: الخشية في هذه القراءة استعارة، والمعنى: إنما يجلهم ويعظمهم، كما يجل المهيب المخشى من الرجال بين الناس ومن بين جميع عباده. (إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ) تعليل لوجوب الخشية؛ لدلالته على عقوبة العصاة وقهرهم، وإثابة أهل الطاعة والعفو عنهم، والمعاقب المثيب حقه أن يخشى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قولُه: (فما وَجْهُ قراءة)، الفاءُ تدلُّ على إنكارِ قولِه: ((لا بدَّ من ذلك))، أي: من تقديمِ المفعولِ، أي: إذا كان الواجب ذلك لصحّةِ المعنى، فما وَجْهُ هذه القراءة؟
قولُه: (كما يُجَلُّ المَهيب)، ((ما)) مصدرية، أي: إنما يُجلُّهم إجلالاً مِثلَ إجلالِ المَهيبِ المخشيِّ من الرجال. هذا بيانُ وَجْهِ الاستِعارة، وذلكَ أنّ الاستِعارةَ مسبوقةٌ بالتشبيه، شبّه حالةَ مُعامَلةِ الله تعالى معَ العُلماءِ في تعظيمِه إياهُم وإجلالِهِ لهم كمُعامَلةِ مَنْ يُجِلُّ ويُعظِّمُ السُّلطان ومَن هو بصَدَدِه خشيةَ سَطوتِهِ وهَيْبته، فأُدخِلَ المُشبَّهُ في جِنسِ المُشبَّهِ به، واستُعمِلَ فيما يُستَعمَلُ في المُشبَّهِ به دَالاًّ عليه، بقرينةِ ما هو مُنزَّةٌ من ذلك ومُتعالٍ عنه من الخشية، وهي الاستعارةُ التَّبَعيةُ الواقعةُ على طريق التمثيل.
قولُه: (المعاقِبُ المثيبُ حقُّه أن يُخْشى)، فإن قُلتَ: المثيبُ كيفَ يخشى، والوصفُ بالغُفْرانِ موجبٌ للرجاءِ لا للخوف؟
قلتُ: جوابُه ما ذكرَ في ((الفرقان)) في قوله: ﴿إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَّحِيمًا﴾ [الفرقان: ٦]: ((دل بهذا على القدرةِ التامةِ؛ لأنه لا يوصفُ بالمغفرةِ والرحمةِ إلا القادرُ على العقوبة)).
ويمكنُ أن يقال: إنّ حالتَي سَطَواتِ القهرِ إما أن تكون بَغْتةً أو إمهالاً، فدلّ العزيزُ على الأولِ والغفورُ على الثاني، قال تعالى: ﴿وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ﴾ [الكهف: ٥٨]، فالعالِمُ يخافُ الحالتَيْن خصوصًا الثانية؛ لأنها قد تكونُ استدراجًا، بخلافِ الجاهلِ لأنه لا يأمَنُ فيها كلَّ الأمن.


الصفحة التالية
Icon