وتقديم الكاذب على الصادق أيضًا من هذا القبيل، وكذلك قوله: ﴿إنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾. فإن قلت: فعن أبي عبيدة: أنه فسر البعض بالكل، وأنشد بيت لبيد:
تراك أمكنة إذا لم أرضها.... أو يرتبط بعض النفوس حمامها
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وتقديم الكاذب على الصادق أيضًا من هذا القبيل)، الانتصاف: نظيره: ﴿إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾ [يوسف: ٢٦] قدم ما تصدق به المرأة؛ لدفع التهمة وإبعاد الظن، ولم يضره تأخر المقصد لهذه الفائدة، وقريب منه: ﴿فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ﴾ [يوسف: ٧٦].
قوله: (تراك أمكنة)، البيت، أي: أترك أمكنة إذا لم أرضها إلى أن يرتبط الحمام بعض النفوس، أي: كلا، وهو يوم القيامة، وهذا خطأ؛ لأنه أراد ببعض النفوس نفسه، أي: إلى أن يموت من هو مشهور معروف ولا يخفى على كل أحد. وعليه قوله تعالى: ﴿وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ﴾ [البقرة: ٢٥٣]. وقال الزجاج: قوله: ﴿بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾ من لطيف المسائل؛ لأن النبي عليه السلام إذا أوعد وعدًا وقع بأسره لا بعضه، وحق اللفظ: "كل الذي يعدكم"، لكن هذا من باب النظر يذهب فيه المناظر إلى إلزام الحجة بأيسر ما في الأمر، وليس فيه نفي إصابة الكل. ومثله قول الشاعر:
قد يدرك المتأني بعض حاجته.... وقد يكون مع المستعجل الزلل
إنما ذكر البعض؛ ليوجب له الكل، لا أن البعض هو الكل، ولكن القائل إذا قال: أقل ما يكون للمتأني إدراك بعض الحاجة، وأقل ما يكون للمستعجل الزلل، فقد بان فضل المتأني على المستعجل بما لا يقدر الخصم أن يدفعه. وذكر الزجاج في "آل عمران": وأنشد أبو عبيدة بيتًا غلط في معناه، يعني هذا البيت، وقال: المعنى: أو يعتلق كل النفوس حمامها.


الصفحة التالية
Icon