وترى أشعارهم ناطقة بشكوى الزمان، ومنه قوله عليه السلام: «لا تسبوا الدهر، فإنّ الله هو الدهر»، أي: فإنّ الله هو الآتي بالحوادث، لا الدهر.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
واعلم أنه تعالى لما ذكر خلق السماوات والأرض وقيده بالحق، وقد تقرر غير مرة أن المراد بالحق: المعرفة والعبادة، وتعليل الخلق ها هنا بقوله: ﴿ولِتُجْزَى﴾ دلالة بينة عليه، قال: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إلَهَهُ هَوَاهُ﴾، يعني: ألا تتعجبوا من هذا الذي اتبع هواه، وأضله الله، وختم على سمعه وقلبه، كيف ضل عن سبيل المعرفة ورفض العمل، وطعن في تلك الحكمة البالغة، وادعى الحكمة لنفسه، وقال: لا عمل ولا جزاء، و ﴿مَا هِيَ إلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ ونَحْيَا ومَا يُهْلِكُنَا إلاَّ الدَّهْرُ﴾؟ ! بخلاف المؤمن الذي جعل هواه تبعًا لدينه، ﴿الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ [آل عمران: ١٩١]، ألا ترى كيف رتب قوله: ﴿فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾ على التفكر في خلق السماوات والأرض المؤدي إلى حقية خلقهما؟ فدل بعطف قوله: ﴿وأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ﴾ على ﴿اتَّخَذَ﴾ على أنهم إنما اتبعوا أهواءهم الباطلة، ولم يجيلوا فكرهم في تلك الآيات الباهرة الدالة على تلك الحكمة البالغة لسبق علمه الأزلي والقضاء المقدر، وذلك الذي جسرهم أن يبطلوا حكمة الله بقولهم: ﴿مَا هِيَ إلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ ونَحْيَا﴾.
ثم نفى العلم عنهم على الاستغراق بقوله: ﴿مَا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ﴾، وذيل الآيات بقوله: ﴿ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلَى يَوْمِ القِيَامَةِ﴾، ورتب فيه: ﴿ولَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ تقريرًا وتأكيدًا، فعلم قطعًا أن من اقتنى شيئًا من الهذيان، وسماه حكمة، واتبع الهوى، ورفض العمل، وأنكر الهدى الذي هو القول بالحشر: هو ممن أضله الله على علم وختم على سمعه وقلبه، وجعل على بصره غشاوة، وما له بما يقول من علم، وهو أجهل خلق الله، وإن جمع أسفارًا من الهذيانات، نعوذ بالله من سخط الله.
قوله: (لا تسبوا الدهر): روينا عن البخاري ومسلم ومالك وأبي داود عن أبي هريرة