وأن تصير كل جماعة منهم منهية عن السخرية، وإنما لم يقل: رجل من رجل، ولا امرأة من امرأة، على التوحيد؛ إعلامًا بإقدام غير واحد من رجالهم، وغير واحدة من نسائهم، على السخرية، واستفظاعًا للشأن الذي كانوا عليه، ولأنّ مشهد الساخر لا يكاد يخلو ممن يتلهى ويستضحك على قوله، ولا يأتي ما عليه من النهي والإنكار، فيكون شريك الساخر وتلوه في تحمل الوزر، وكذلك كل من يطرق سمعه، فيستطيبه، ويضحك به، فيؤدي ذلك -وإن أوجده واحد- إلى تكثر السخرة وانقلاب الواحد جماعة وقومًا.
وقوله تعالى: ﴿عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ﴾ كلام مستأنف، قد ورد مورد جواب المستخبر عن العلة الموجبة لما جاء النهي عنه، وإلا فقد كان حقه أن يوصل بما قبله بالفاء. والمعنى: وجوب أن يعتقد كل أحد أن المسخور منه ربما كان عند الله خيرًا من الساخر، لأنّ الناس لا يطلعون إلا على ظواهر الأحوال، ولا علم لهم بالخفيات، وإنما الذي يزن عند الله: خلوص الضمائر وتقوى القلوب، وعلمهم من ذلك بمعزل، فينبغي أن لا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن تقتحمه عينه إذا رآه رث الحال،
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
فهذا في المعنى كقولك: أن التسليم والترك لا متشابهان ولا سواء".
قوله: (واستفظاعًا للشأن الذي كانوا عليه): يعني: إنما جمع، ولم يقل: "رجل من رجل"، لأن النهي ورد على الحالة الواقعة بين الأقوام، كقوله تعالى: ﴿لَا تَاكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً﴾ [آل عمران: ١٣٠].
قوله: (يتلهى): أي: طلب منه اللهو والضحك على قول الساخر.
قوله: (ولا يأتي ما عليه): أي: لا يفعل هذا الجليس ما يجب عليه من نهي المنكر.


الصفحة التالية
Icon