وأخر ذكر خلق الإنسان عن ذكره، ثم أتبعه إياه، ليعلم أنه إنما خلقه للدين، وليحيط علما بوحيه وكتبه وما خلق الإنسان من أجله، وكأن الغرض في إنشائه كان مقدما عليه وسابقا له، ثم ذكر ما تميز به من سائر الحيوان من البيان، وهو المنطق الفصيح المعرب عما في الضمير.
﴿الرَّحْمَنُ﴾ مبتدأ، وهذه الأفعال مع ضمائرها أخبار مترادفة، وإخلاؤها من العاطف لمجيئها على نمط التعديد، كما تقول: زيد أغناك بعد فقر، أعزك بعد ذل، كثرك بعد قلة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد، فما تنكر من إحسانه؟
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يكون حفيظًا على المعدل ومهيمنًا عليه، ولهذا قالوا: هو عيار على كذا، أي: القرآن عيار على سائر الكتب كلها، ومصدقها ومهيمن عليها ليكون مستويًا.
قوله: (وأخر ذكر خلق الإنسان) أي: أخر ما هو مقدم في الوجود، وقدم ما هو مؤخر عنه، ليؤذن بأن المقصود الأولي من خلق الإنسان تعليم ما به يرشد إلى ما خلق له من العبادة، كقوله تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ [الذاريات: ٥٦] وخص القرآن بالذكر لأنه أعظم وحي الله رتبة، وأعلاه منزلة، وأجمع لما يراد بالهداية من الكتب السماوية، إذ هو بإعجازه، واشتماله على مكارم الأخلاق، مصدق لنفسه ومصداق لها، ودل اختصاص ذكر الرحمن، على أنه من جلائل النعم وعظائمها، ولهذا السر صدرت السورة براعة للاستهلال، لاشتمالها على النعم الأخروية والدنيوية، وإنما أردف الإنسان ذكر البيان، لينبه على أن اختصاصه بتلك النعمة السنية من بين سائر الحيوان، لتميزه وتعبيره عما في ضميره بالنطق لإفهام الغير، فالنبي إذا تلقى الوحي يجب عليه التبليغ، ثم تعليم الشرائع وبيان ما أجمل.
وأما قوله: "وما خلق الإنسان لأجله، وكان الغرض من إنشائه كان مقدمًا عليه"، فينظر إلى قولهم: إن الغايات والكمالات سابقة في التقدم، لاحقة في الوجود، نحوه ما روينا عن الترمذي عن أبي هريرة حين قالوا: يا رسول الله ﷺ متى وجبت لك النبوة؟ قال: "وآدم بين


الصفحة التالية
Icon