وهو فنّ من الكلام جزل، فيه هزّ وتحريك من السامع، كما أنك إذا قلت لصاحبك حاكيا عن ثالث لكما: إنّ فلانا من قصته كيت وكيت، فقصصت عليه ما فرط منه، ثم عدلت بخطابك إلى الثالث فقلت: يا فلان من حقك أن تلزم الطريقة الحميدة في مجارى أمورك، وتستوي على جادّة السداد في مصادرك ومواردك، نبهته بالتفاتك نحوه فضل تنبيه، واستدعيت إصغاءه إلى إرشادك زيادة استدعاء، وأوجدته بالانتقال من الغيبة إلى المواجهة هازاً من طبعه ما لا يجده إذا استمررت على لفظ الغيبة، وهكذا الافتنان في الحديث والخروج فيه من صنف إلى صنف، يستفتح الآذان للاستماع،
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (وأوجدته) أي: صيرته واجدًا، من: أوجدته الشيء فوجده، وأوجده الله مطلوبه، أي: أظفره به. المعنى: صيرته واجدًا شيئًا هازًا من طبعه، ولولا هذا الالتفات لما وجد السامع ذلك الشيء الهاز.
قوله: (والخروج من صنفٍ إلى صنفٍ يستفتح الآذان للاستماع). واعلم أن كل عدولٍ عن الظاهر من البليغ، سواء كان التفاتًا أو غيره، تنبيه على مكان لطيفةٍ مثارها مقتضى المقام، فمتى وقع عند بليغٍ مثله، وتنبه لها، استهش نفسه لقبولها.
قال صاحب "المفتاح": ولأمرٍ ما تجد أرباب البلاغة وفرسان الطراد يستكثرون من هذا الفن في محاوراتهم.
واللطيفة التي يتضمنها هذا المقام هي أنه تعلى لما عدد الفرق الثلاث بمسمعٍ منهم، مخاطبًا غيرهم، ووصف كل فرقةٍ بما اختصت به مما يسعدها ويشقيها، ويحظيها ويرديها؛ أقبل عليهم بقوله: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ) يعني: أيها المؤمنون كما شرفتكم ورفعت منزلتكم ومنحكتم الكتاب الكامل، ففزتم بالهدى عاجلاً، وبالفلاح آجلاً، دوموا على ما أنتم فيه، ولا تتوانوا، وزيدوا في الشكر والتقوى، لأزيدنكم في النعمة والإفضال، ويا أيها الكافرون أقلعوا عما أنتم