كالناشئ على التقليد من الحشوية، إذا أحسّ بكلمة لا توافق ما نشأ عليه وألفه، وإن كانت أضوأ من الشمس في ظهور الصحة وبيان الاستقامة، أنكرها في أوّل وهلة، واشمأز منها، قبل أن يحس إدراكها بحاسة سمعه، من غير أن يفكر في صحة أو فساد، لأنه لم يشعر قلبه إلا صحة مذهبه وفساد ما عداه من المذاهب.
فإن قلت: ما معنى التوقع في قوله: (وَلَمَّا يَاتِهِمْ تَاوِيلُهُ)؟ قلت: معناه: أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر ومعرفة التأويل؛ تقليداً للآباء، وكذبوه بعد التدبر، تمرداً وعناداً، فذمّهم بالتسرع إلى التكذيب قبل العلم به، وجاء بكلمة التوقع؛ ليؤذن أنهم علموا بعد علو شأنه وإعجازه لما كرّر عليهم التحدّي، ورازوا قواهم في المعارضة، واستيقنوا عجزهم عن مثله، فكذبوا به بغياً وحسداً.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (في أول وهلة)، النهاية: "لقيته وهلة، أي: أول شيء، والوهلة: المرة من الفزع، أي: لقيته أول فزعة فزعتها بلقاء إنسان".
قوله: (أنهم كذبوا به على البديهة قبل التدبر): يعني: تكذيبهم القرآن كان مستمراً قبل التدبر، وانتهى الاستمرار بعد التدبر مع تغير الجهل إلى العلم، والكفر إلى العناد، قال في "المفصل": "إن "لم يَفعَل" نفيُ "فَعَل"، و"لما يفعل" نفيُ "قد فعل"، وهي "لم" ضُمت إليها "ما"، فازدادت في معناها أن تضمنت معنى التوقع والانتظار، واستطال زمان فعلها".
فعلى هذا: عُلم أن تكذيبهم استطال زمانه، لن لم يعلم أنهم بعدما جاءهم تأويله عاندوا أم أنصفوا؟ لكن مقام النعي عليهم دل على معنى العناد، ويؤيده ما ذكرنا من معنى الترقي آنفاً، وقوله بعده: (كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ).