ولأنه أبعد من التحريف والتبديل، وأسلم من التنازع والاختلاف، ولأنه لو نزل بألسنة الثقلين كلها - مع اختلافها وكثرتها، وكان مستقلاً بصفة الإعجاز في كل واحد منها، وكلم الرسول العربيّ كل أمّةٍ بلسانها كما كلم أمّته التي هو منها يتلوه عليهم معجزاً - لكان ذلك أمراً قريباً من الإلجاء.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (أبعد من التحريف والتبديل، وأسلم من النزاع والاختلاف)، قال صاحب "الفرائد": وذلك أن الرسول إذا لم يكن له لسان مخالف للسان قومه تبين لهم كلهم ما أرسل به إليهم بلسانهم هم، ثم هم ينقلون ذلك إلى من سواهم من الأمم، وهلم جرا، فيحصل التواتر، وبه يحصل اليقين، وأما إذا كان لسانه مخالفاً للسان المبعوث إليهم، فيحتاجون إلى الترجمان والمبين، فيضعف النقل، فلم يحصل لهم اليقين، فيقع الاختلاف. ألا ترى أن رسول الله ﷺ لم يقبض حتى صار النقل تواتراً.
قوله: (وكلم الرسول العربي كل أمة بلسانها، كما كلم أمته) إلى قوله: (لكان ذلك أمراً قريباً من الإلجاء)، قال في "الانتصاف": "وفي هذا نظر؛ إذ يتضمن أن إعجاز القرآن بلفظه خاصة، حتى لو قدر منزلاً بكل لغة لكان إلجاء إلى الإيمان، وهو بعيد، لأن الإيمان عند حصول العلم بالمعجزة ليس إلجائياً، ولا فرق بين حصوله بلغة واحدة ولغات كثيرة".
وقلت: ولعل مراد المصنف من الإلجاء أن رجلاً واحداً عربياً إذا تكلم بالألسن التي لا تكاد تنحصر كثرة، ويكون كل منها مستقلاً بالإعجاز، كان ذلك مما يخرج عن حد المعجزة التي يصح أن يتحدى بها، فيكون كالأمور التي تلجئ إلى الإيمان، كالكشف عن قوارع الساعة، وحضور ملك الموت، وغير ذلك، ومن ثم قال: "قريباً من الإلجاء".