فطعنوا، وذلك لجهلهم وبعدهم عن العلم بالناسخ والمنسوخ، وكانوا يقولون: إن محمدا يسخر من أصحابه: يأمرهم اليوم بأمر وينهاهم عنه غدا، فيأتيهم بما هو أهون، ولقد افتروا؛ فقد كان ينسخ الأشق بالأهون، والأهون بالأشق، والأهون بالأهون، والأشق بالأشق، لأنّ الغرض المصلحة، لا الهوان والمشقة. فإن قلت: هل في ذكر تبديل الآية بالآية دليل على أن القرآن إنما ينسخ بمثله، ولا يصح بغيره من السنة والإجماع والقياس؟ قلت: فيه أن قرآناً ينسخ بمثله، وليس فيه نفى نسخه بغيره، على أن السنة المكشوفة المتواترة مثل القرآن في إيجاب العلم، فنسخه بها كنسخه بمثله، وأمّا الإجماع والقياس والسنة غير المقطوع بها فلا يصح نسخ القرآن بها.
[(قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدىً وَبُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ)].
في (يُنَزِّلُ) و (نَزَّلَهُ) وما فيهما من التنزيل شيئاً فشيئاً على حسب الحوادث والمصالح: إشارة إلى أن التبديل من باب المصالح، كالتنزيل، وأنّ ترك النسخ بمنزلة
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بِمَا يُنَزِّلُ) اعتراض دخل بين الشرط وجزائه، أي: هو أعلم بما يُنزل من الناسخ والمنسوخ والتغليظ والتخفيف لمصالح العباد، وهذا توبيخ لكفار على قولهم: (إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ) أي: إذا كان هو أعلم بما يُنزل فما بالهم ينسبون محمداً إلى الافتراء لأجل التبديل والنسخ، وقوله: (بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ) معناه: لا يعلمون حقيقة القرآن، وفائدة النسخ والتبديل، كما أن الطبيب الحاذق يأمر المريض بشربة، ثم بعد ذلك ينهاه عنها ويأمر بضد تلك الشربة.
قوله: (إن السنة المكشوفة المتواترة مثل القرآن)، وقد سبق الكلام عليه في سورة البقرة.


الصفحة التالية
Icon