عليهما، لكبرهما وافتقارهما اليوم إلى من كان أفقر خلق الله إليهما بالأمس، ولا تكتف برحمتك عليهما التي لا بقاء لها وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية، واجعل ذلك جزاء لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك. فإن قلت: الاسترحام لهما إنما يصح إذا كانا
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لا بيانية، إذ لو بين الجناح بها لرجعت الاستعارة إلى التشبيه التجريدي، كقوله تعالى: (حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ) [البقرة: ١٨٧]، قال أبو البقاء: من أجل رفقك بهما، فـ"مِن" متعلقة بـ"اخفض"، ويجوز أن تكون حالاً من جناح، وقال صاحب "الفرائد": التواضعُ والتذللُ ربما يكونان لأمرٍ آخر لا للرحمة والعطف، فقوله: (مِنْ الرَّحْمَةِ) معناه: من أجل الرحمة، يعني ينبغي أن لا يكون ذلك التذلل للخوف أو لأمر آخر.
قوله: (وادع الله بأن يرحمهما رحمته الباقية، واجعل ذلك جزاءً لرحمتهما عليك في صغرك وتربيتهما لك)، هذا المعنى يعطيه معنى كاف التشبيه. قال أبو البقاء: (كَمَا): نعت مصدرٍ محذوف، أي: رحمة مثل رحمتها لي، وقال القاضي: ارحمهما رحمةً مثل رحمتهما عليَّ وتربيتهما وإرشادهما لي في صغري وفاءً بوعدك للراحمين. وقلتُ: "ما" في (كَما): مصدرية، والوقت فيه مقدر، أي: ارحمهما في وقت أحوج ما يكونان إلى الرحمة من جميع الأوقات، كوقت رحمتهما علي وأنا في حالة الصغر كلحم على وضم وليس ذلك إلا في القيامة، والرحمة هي الجنة. ولهذا قال: رحمته الباقية. هذا هو التحقيق.
ونقل صاحب "اللباب" عن بعضهم: أنا لكاف في (كَمَا رَبَّيَانِي): لتأكيد الوجود. وذكر الشارح في توجيهه أنه ليس الكاف فيه للقران في الوقوع، كما في قولك: كما حضر زيدٌ قام عمرو، لأن التربية من الوالدين واقعة والرحمة لهما مطلوب الوقوع؛ لأنها مذكورة بصيغة الأمر في (رَّبِّ ارْحَمْهُمَا)، فالكاف ليس للمقارنة في الوقوع، بل لتاكيد وجود الرحمة،


الصفحة التالية
Icon