فإن كثيرا مما يوسوسه الشيطان في قلوب الناس ويحدّثون به أنفسهم من المنكرات لا يتمالكون أن يتفوّهوا به ويطلقوا به ألسنتهم، بل يكظمون عليه تشوّرا من إظهاره، فكيف بمثل هذا المنكر؟ وقرئ: (كبرت) بسكون الباء مع إشمام الضمة. فإن قلت: إلام يرجع الضمير في كبرت؟ قلت: إلى قولهم: (اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً)، وسميت كلمة كما يسمون القصيدة بها.
[(فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً)].
شبهه وإياهم حين تولوا عنه ولم يؤمنوا به وما تداخله من الوجد والأسف على توليهم، برجل فارقه أحبته وأعزته فهو يتساقط حسرات على آثارهم، ويبخع نفسه
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قوله: (فإن كثيراً مما يوسوسه الشيطان)، إلى قوله: (بل يكظمون عليه تشوراً من إظهاره)، مقتبسٌ من قوله صلى الله عليه وسلم، عن عبد الله بن مسعود، قال: سئل رسول الله ﷺ عن الوسوسة، فقالوا: إن أحدنا ليجد في نفسه لأن يُحرق أو يخر من السماء أحب إليه من أن يتكلم به، قال: "ذلك محض الإيمان"، أخرجه مسلمٌ.
قوله: (شبهه وإياهم)، يعني: شبه الله رسول الله ﷺ وقومه في قوله: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ)، فالاستعارة تمثيلية لكون المشبه: حاله وحال قومه، والمشبه به: حال الرجل مع أحبته.
قوله: (ويبخع نفسه). الراغب: البخع: قتل النفس غماً، وقوله تعالى: (فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ) حث على ترك التأسف، نحو: (فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ) [فاطر: ٨]، قال الشاعر:
ألا أيهذا الباخع الوجد نفسه
وبخع فلانٌ بالطاعة، وبما عليه من الحق: إذا أقر به وأذعن مع كراهةٍ شديدة تجري مجرى: بخع نفسه في شدته.