ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر ومنبته وهو الرأس. وأخرج الشيب مميزا، ولم
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
صورة وهمية قُدرت مشابهة لصورة محققة هي معنى ذلك اللفظ، فلو كان تشبيه الشيب بشواظ النار كما ذكره مقصوداً في الآية لكانت استعارة بالكناية، ولو كانت استعارة بالكناية لكان قوله: (وَاشْتَعَلَ): استعارة تخييلية، وذلك لا يمكن؛ لأنه جعل انتشار الشيب في الشعر وفشوه فيه وأخذه منه كل مأخذٍ تشبيهاً باشتعال النار، وهو ينافي ذلك الأمر لما مر أن الإستعارة التخييلية لا تعتمد المشبه أمراً محققاً، والأول أن يُجعل المشبه انتشار الشيب في الشعر، والمشبه به اشتعال النار، والجامع: فشو الشيء في الشيء.
وقلتُ: إنما دخل عليه هذا من جعل التشبيهين تمهيداً لقاعدة الاستعارة المكنية؛ لأنها مستدعية لما ذكر، وذهب عنه أن التشبيهين تمهيدٌ للاستعارة التمثيلية وهو أن يُنتزع التشبيه من عدة أمور متصورة فلابد من سبق تشبيه حالة الشيب بحالة النار وحالة فشوه في الرأس وأخذه منه كل مأخذ بحالة اشتعال النار في الحطب الجزل. كما قال:

واشتعل المبيض في مسوده مثل اشتعال النار في جزل الغضا
والجامع: سرعة انبساط بياض في سواد مع تعذر التلافي، ثم حُذف أحد طرفي التشبيه وهو المشبه وإخراج المشبه به مخرج المشبه ليتم أمر الاستعارة، وإليه الإشارة بقوله: "ثم أخرجه مخرج الاستعارة".
وأما اختيار صاحب "الإيضاح": والأولى أن يجعل المشبه انتشار الشيب في الشعر، والمشبه به اشتعال النار، فمرجعه إلى الاستعارة التبعية، وهو لا ينافي ذلكا لتقرير، على أن التشبيه كلما كان أكثر تفصيلاً كان أدخل في الحُسن.
قوله: (ثم أسند الاشتعال إلى مكان الشعر)، هذا أخذٌ في مشرع علم المعاني بعد الفراغ من مشرع علم البيان، يريد أن أصل الكلام: اشتعل شيب رأسي، فترك هذه المرتبة إلى ما هي أبلغ، هي اشتعل رأسي شيباً، وكونها أبلغ من جهات، إحداها: إسنادُالاشتعال إلى الرأس لإفادة شمول الاشتعال؛ لأن وزان "اشتعل شيبُ رأسي" و"اشتعل رأسي شيباً"،


الصفحة التالية
Icon