وقال في موضع آخر عن المجادلة: "هي المنازعة في المسألة العلمية لإلزام الخصم، سواء كان كلامه فاسداً في نفسه أو لا" (١).
وبالنظر في هذه التعريفات المتعددة للجدل والجدال يتبين أنها متقاربة، وإن كان بينها بعض الاختلاف، وإذا أمعنا النظر في ذلك نجد أنها قد اختلفت باختلاف الهدف من الجدل، ولذا قال الفيومي بعد تعريفه: وهو محمود إن كان للوقوف على الحق وإلا فمذموم.
والحاصل: أن الجدال لا يخلو عن تخاصم ومراء في الأصل؛ لكن قد يستعمل بمعنى المباحثة والمناظرة التي يهدف فيها المتباحثون التوصل للحق، مثل ما كان يقع من المناظرات بين الشافعي وسفيان الثوري، أو بين الشافعي وإسحاق بن راهويه (٢)، أو بين غيرهم من الأئمة السابقين.
ولهذا كان الجدل في الدين محموداً، ولقد جادل نوح - عليه السلام - والأنبياء أقوامهم حتى يظهر الله الحق، فمن قبله أنجح وأفلح، ومن رده خاب وخسر.
وقد يكون الجدال للمماراة والعناد وجحد الآيات، أو لدحض الحق بالباطل، ولا يهدف إلى إظهار الحق؛ فيكون بهذا مذموماً.
ولهذا لا تكون المجادلة لأهل الكتاب إلا عن بصيرة، وتكون من أهل العلم الذين يفهمون كيف يجادلونهم؛ ليقنعوهم ويستطيعوا الرد على شبهاتهم.
وأما الجاهل الذي يجادل من غير علم وبدون بصيرة، فلا يحق له أن يجادلهم لما قد يترتب على ذلك من الفتنة، وعلى هذا التَّفصيل تنزَّل النُّصوص الواردة في إباحته وذمّه.
والجدال ينقسم من حيث مشروعيته إلى قسمين: جدال محمود، وجدال مذموم، وإذا نظرنا في نصوص الخطاب القرآني الواردة في الجدال نجد أن بعضها تدل على مشروعيته، وبعضها تدل على
_________
(١) انظر: الكليات (ص: ١٣٦٩) مرجع سابق.
(٢) إسحاق بن إبراهيم بن مخلد بن إبراهيم بن مطر أبو يعقوب الحنظلي، المعروف بابن راهويه، ولد سنة ١٦١ هـ، ومات سنة ٢٣٨ هـ، ثقة حافظ. انظر: تهذيب التهذيب، (١/ ١٩٠) مرجع سابق.


الصفحة التالية
Icon