فإِنْ قَال قَائِلٌ: القَاعِدَةُ العِبرَةُ بعُمُومِ اللَّفظِ لَا بخُصُوصِ السَّبَبِ، الْآية: ﴿لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا﴾ لمَاذَا لَا يَحتَمِلُ المَعنيَينِ السُّخريةَ، وأيضًا التَّسخِيرَ؟
فالجَوابُ: أن هَذا لَا يَستَقِيمُ؛ لأَنَّ اختِلَافَ الطَّبَقَاتِ لَيسَ مِنْ أَجْلِ أَنْ يَستَهزِئَ بعضُهُمْ ببعْضٍ، لكِنْ مِنْ أَجْلِ أَنْ يُسخِّر بعضُهُمْ بعْضًا فِي العَمَلِ، ولَا يُمكِنُ أن اللهَ عَزَّ وَجَلَّ بحِكْمَتِهِ يَجْعَلُ طبَقَاتٍ مخُتَلِفَةً مِنْ أَجْلِ أَنْ يَستَهزِئَ بعضُهُم ببعْضٍ.
قَال رَحَمَهُ اللهُ: [﴿وَرَحْمَتُ رَبِّكَ﴾ أيِ: الجَنّة ﴿خَيرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ فِي الدُّنيَا].
قَوُلهُ: [﴿وَرَحْمَتُ رَبِّكَ﴾ أيِ: الجنَّة] فِيهِ أيضًا شَيءٌ مِنَ القُصُورِ، الرَّحمَةُ تُطلَقُ عَلَى الجَنَّةِ بِلَا شَكٍّ كَمَا قَال اللهُ تعَالى لَهَا يُخَاطِبُها: "أَنْتِ رَحْمَتِي أرْحَمُ بِكِ مِنْ أَشاءُ" (١)، وقَال تعَالى: ﴿فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (١٠٦) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ﴾ [آل عمران: ١٠٦ - ١٠٧] يَعْنِي: الجنَّة، لكِنْ يَنْبَغِي أَنْ يُقَال: رَحمَةُ اللهِ أعَمُّ مِنْ هَذَا، حتَّى رحمَةُ اللهِ تَعَالى للعَبْدِ بهِدَايتِهِ للإسلَامِ والإيمَانِ خَير ممَّا يَجْمَعُونَ، فالأَوْلَى التَّعمِيمُ دُونَ التَّخصِيصِ.
فإِنْ قَال قَائِل: قَولُ المفسِّر رَحَمَهُ اللهُ: ﴿وَرَحْمَتُ رَبِّكَ﴾ أَي: أنَّه الجَنَّةُ، هَلْ هَذَا مِنْ تَأويلِهِ؟
فالجَوابُ: لَا، بل مِنَ التَّقصِيرِ فِي التَّفسِيرِ، لَيسَ تَأويلًا؛ لأَنَّ الجَنَّةَ رَحمَةٌ،