نَقُول: بلى، عُلُوُّ الله بذاته صفةٌ أزليَّة أبديَّةٌ لا تنفَكُّ عن الله، خلَق ثم اسْتَوَى، فمعنى ذلك أنه حين الخَلْقِ ليس مُسْتَوِيًا على العَرْش، وهذا حقٌّ؛ لأن الإستواءَ على العَرْشِ أخَصُّ من مُطْلَقِ العُلُوِّ؛ فالإستواءُ على العَرْشِ والعُلُوُّ على العَرْشِ خاصَّةً هذا معنًى خاصٌّ غيرُ معنى (مُطْلَقِ العُلُوِّ) فالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالى عالٍ دائمًا لكنْ كَوْنُه على العرش بنفسه هذا حادِثٌ قطعًا؛ لأنَّ العَرْشَ مخلوقٌ. وقد بيَّنَ الله أنَّه استوى على العَرْشِ بعد خلْقِ السَّمواتِ والأرضِ، ولا نعلم عمَّا قبل ذلك، والله أعلم.
ولكنَّ السؤالَ الآن: إذا قُلْتُمْ إنَّ معنى (استوى على العرش) أي: علا واسْتَقَرَّ عليه، فإنه يَرِدُ علينا إشكالٌ: بأنَّ عُلُوَّ الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى وَصْفٌ ذاتيٌّ أزليٌّ أبديٌّ، فكيف تقولون إنَّ معنى صَعِدَ علا عليه، وأنتم تقولون إنَّ العُلُوَّ صفةٌ ذاتيَّةٌ أزَلِيَّة أبديَّة، وفي العُلُوِّ عُلُوَّانِ: مُطْلَقُ عُلُوٍّ، وعُلُوٌّ خاصٌّ بالعكس؛ فالأوَّلُ الذي هو مُطْلَق العُلُوِّ صفةٌ ذاتيَّة أزليَّة أبديَّة، فالله لم يَزَلْ ولا يزالُ عاليًا بذاتِهِ على جميع الخلق، أما الإستواءُ على العَرْشِ فهو صفةٌ فعليَّة خاصَّةٌ في العرش.
وأضْرِبُ مثلًا يُقَرِّبُ المعنى: فالإنسانُ إذا كان على السَّطح فهو عالٍ على مَنْ تحت السطحِ، فإذا وُضِعَ له كرسِيٌّ في السَّطح وجلس عليه صار عُلُوُّه على هذا الكرسيِّ علوًّا خاصًّا مع ثبوتِ العُلُوِّ الأَوَّلِ الذي هو مُطْلَق العُلُوِّ، لكنَّ هذا عُلُوٌّ خاصٌّ: على هذا الكرسيِّ.
فتبيَّنَ أنَّ هناك فرقًا بين العُلُوِّ بالمعنى العامِّ؛ فإنه وَصْفٌ ذاتيٌّ أزليٌّ أبديٌّ، وبين استوائه على العَرْش الذي هو علوٌّ خاصٌّ على ذلك العَرْش؛ ولهذا بعضُ السَّلَفِ ورد عنه تَفْسيرُه: (بأنَّه جلس عليه) وهذا قريبٌ من تفسيره بالإستقرار، فهذا علوٌّ خاصٌّ، ففرَّقَ بين العُلُوِّ الخاصِّ، وبين العُلُوِّ بالمعنى العامِّ.