وقوله تعالى: ﴿لَآتَيْنَا﴾ هذا الجوابُ الأَوَّل، و ﴿لَآتَيْنَا﴾ أَعْطَيْنا؛ ولهذا نَصَبَتْ مفعولينِ: المفعولُ الأوَّل: ﴿كُلَّ نَفْسٍ﴾؛ والثَّاني: ﴿هُدَاهَا﴾ والهُدى بمعنى الدَّلالَة والتَّوْفيق؛ ولهذا قال رَحِمَهُ اللَّهُ: [فتَهْتَدي بالإيمانِ والطَّاعة] ولو شاء الله تعالى لفَعَلَ كما قال سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى في آيات أخرى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (١١٨) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ﴾ [هود: ١١٨ - ١١٩]؛ فالله عَزَّ وَجَلَّ لو شاء لجَعَلَ النَّاسَ أمَّةً واحِدَةً على الإيمان والتَّوْحيدِ والإستقامَةِ، ولكن حِكْمَةُ الله تأبى ذلك لأسبابٍ كثيرةٍ؛ منها: أنه جَلَّ وَعَلَا قال للنَّارِ: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾؛ فقال: ﴿لَأَمْلَأَنَّ﴾ وهذا قَسَمٌ وتَعَهُّدٌ من الله عَزَّ وَجَلَّ للنَّارِ أن يَمْلَأَها: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ﴾، ولو كان النَّاس أمَّة واحدةً على التوحيد ما صَدَق هذا.
فإِذَن: لا بدَّ أن يَصْدُق، واعلم أنه لو كان النَّاسُ أمَّةً واحدةً على التَّوْحيدِ هل يتَمَيَّز المؤمِنُ من الكافِرِ؟ لا؛ فكلُّهم واحِدٌ، فلا امتحان ولا اختبار، ولو كان النَّاسُ أمَّةً واحدةً على التَّوحيد لانْسَدَّ بابُ الأمْرِ بالمعروفِ والنَّهْيِ عن المُنْكَر، والسَّبَبُ أنه ليس هناك مُنْكَرٌ قد يحتاج إلى نَهْيٍ عن المُنْكَرِ، ولو كان النَّاسُ على أمَّةٍ على التَّوْحيدِ لبَطَلَ الجهادُ، أو فمَنْ نُجاهِدُ؟ لا أحد.
المُهِمُّ: أنَّ هناك حِكَمًا كثيرةً في كون الله عَزَّ وَجَلَّ جَعَلَ النَّاسَ على قِسْمين؛ ولهذا قال هنا: ﴿وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي﴾: ﴿حَقَّ﴾ بمعنى وَجَبَ وثَبَت، و ﴿الْقَوْلُ﴾ فاعلٌ و ﴿مِنِّي﴾ متعلِّقٌ بمحذوفٍ حالٌ من القَوْلِ، ﴿وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ﴾ حالَ كَوْنِه صادرًا ﴿مِنِّي﴾ وهذا القولُ هو: ﴿لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ﴾ الجِنِّ ﴿وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ وهنا الفِعْلُ ﴿لَأَمْلَأَنَّ﴾ مؤكَّدٌ بالنُّون وباللَّام وبالقَسَمِ المقَدَّر، والتَّأْكيد هنا واجِبٌ