قولهم: ﴿هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ﴾ أما على قراءة الخطاب فلا إشكال؛ إذ تقديره: هل تستطيع يا عيسى أن تسأل ربك. وأما على الغائب فمعناه: هل يفعل ربك ذلك إن سألته، فعبروا عن الفعل بالاستطاعة؛ لأنها من لوازمه.
ومنه قولهم: ﴿قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَنَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشّاهِدِينَ﴾ (١١٣) [٧٢ أ/م] [المائدة: ١١٣] ظاهر في أنهم كانوا شاكين في صدقه؛ فيجاب عنه بوجوه:
أحدها: أن هذا كان عند أول متابعتهم له، ولما يرسخ الإيمان في قلوبهم، كالمؤلفة قلوبهم من مؤمني الصحابة حتى استقر إيمانهم.
والثاني: أن يكون هذا القول من بعض أتباع الحواريين، إليهم مجازا، كما ينسب إلى الرجل قول بعض حاشيته وأتباعه.
الثالث: أن يجاب عنه بمثل ما أجيب عن قول إبراهيم: ﴿وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اِجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ اُدْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَاِعْلَمْ أَنَّ اللهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (٢٦٠) [البقرة: ٢٦٠] أي بالعيان: وإن كانت قلوبنا مطمئنة بالإيمان.
﴿وَإِذْ قالَ اللهُ يا عِيسَى اِبْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنّاسِ اِتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَلا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاّمُ الْغُيُوبِ﴾ (١١٦) [المائدة: ١١٦] اختلف في هذا؛ فقيل:
إنه وقع، وأن الله-عز وجل-سأل عنه المسيح لما رفع إليه، وقيل: لم يقع، ولكن سيقع يوم القيامة، ويسأله عنه تقريعا للنصارى وتوبيخا لهم، والمعنى: وإذ يقول الله: يا عيسى، واستعمل الماضي موضع المضارع، وعكسه ﴿وَاِتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ﴾ أي: ما تلت.
﴿ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اُعْبُدُوا اللهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ﴾ (١١٧) [المائدة: ١١٧] هذا مما سبق من الاعتراف بالعبودية والربوبية على ما مر تقريره.
...