عدم إيمانهم مفهوم من تكذيبهم، وإنما أتى به تأكيدا، والتأكيد من أبواب اللغات في أصول الفقه، وكذا: ﴿وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَما هَدى﴾ (٧٩) [طه: ٧٩] ﴿وَمَنْ يَعْصِ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَلَهُ عَذابٌ مُهِينٌ﴾ (١٤) [النساء: ١٤] / [١٩٢/ل] الثاني فيهما مفهوم من الأول، وجئ به تأكيدا.
قول شعيب: ﴿قَدِ اِفْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجّانَا اللهُ مِنْها وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا اِفْتَحْ بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ﴾ (٨٩) [الأعراف: ٨٩] لما كان منشؤه في قوم كفار انعقد له سبب موافقتهم فتجوز به عن ملابسة ملتهم فسمى إعراضه عنها بهداية الله-عز وجل-إياه نجاة منها ودخوله فيها لو قدّر عودا إليها.
وقوله: ﴿وَما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاّ أَنْ يَشاءَ اللهُ رَبُّنا﴾ [الأعراف: ٨٩] يدل على جواز الكفر على الأنبياء إذا شاءه الله-عز وجل-وإلا لم يكن لاستثنائه معنى، وقد سبق أن عصمتهم إنما هي من وقوع الكفر لا من جوازه.
﴿أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ﴾ (١٠٠) [الأعراف: ١٠٠] يحتج به المعتزلة على أن الذنوب مخلوقة لأهلها، وإلا لكان مصيبا لهم بما هو مخلوق له، وذلك جور، والطبع على قلوبهم إذا كان من جملة عقوبتهم على ذنوبهم لم يكن فيه حجة، وجوابه قد عرف غير مرة، وقاعدته في مقدمة الكتاب وافية به حيث وقع.
﴿تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَلَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ﴾ (١٠١) [الأعراف: ١٠١] يحتج بها الفريقان، أما المعتزلة فلكونه علل الطبع على قلوبهم بكفرهم، فلو كان كفرهم معلولا للطبع على قلوبهم، لزم الدور، فدل على كفرهم معلول لإرادتهم مخلوق لهم، والجمهور منعوا كون الطبع على قلوبهم معللا بكفرهم بل كفرهم معلل بالطبع على قلوبهم، كأنه قال: كذلك يطبع الله على قلوب قوم فيكفرون بسبب الطبع على قلوبهم.


الصفحة التالية
Icon