بعدي» (١) وهارون خليفة موسى على أمته عند ذهابه لميقات ربه، فكذلك عليّ يجب أن يكون خليفة محمد صلّى الله عليه وسلّم على أمته عند إجابته داعي ربه، وربما قرروه بطريق آخر، وهو أنه لما استثنى النبوة من منازل هارون، دل على أنه أثبت لعلي منه باقي المنازل الهارونية من موسى، ومن تلك المنازل أنه خليفته في حياته، ولو عاش بعد وفاته، فكذلك النبي صلّى الله عليه وسلّم استخلف عليا في حياته عند خروجه إلى تبوك، ثم إنه عاش بعده مدة، فوجب أن يكون خليفته بعد وفاته لتثبت له المنزلة الهارونية تحقيقا في الحياة وتقديرا بعد الوفاة.
وأجاب الجمهور عن الطريقة الأولى بأن استخلاف موسى لهارون كان في حياته، ودعواكم استخلاف عليّ بعد وفاة النبي صلّى الله عليه وسلّم والحياة والوفاة نقيضان لا يصح قياس أحدهما على الآخر، وعن الطريقة الثانية بأنا لا نسلم أن هارون/ [٩١ أ/م] لو عاش بعد موسى كان خليفة بعده، وحينئذ لا تثبت هذه المنزلة لهارون، فلا تثبت لعلي لأنه مشبه به، وفرع عليه.
﴿وَلَمّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَلكِنِ اُنْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اِسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمّا تَجَلّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (١٤٣) [الأعراف: ١٤٣] يحتج به الجمهور على جواز رؤية الله-عز وجل- وإلا لكان موسى غير عارف بما يجوز على الله عز وجل وما لا يجوز، أو مجترئا عليه بسؤال ما لا يجوز عليه، وكلاهما باطل، واعترض المعتزلة بأن قالوا: لم يكن سؤال موسى الرؤية لنفسه، إنما كان لقومه حين قالوا: أرنا الله جهرة. وقد قوبلوا عليه بالصعق والموت ولم يلزم من ذلك جهل ولا جرأة من موسى؛ إذ كان مبلغا عن غيره، ومبلغ الكفر والمعصية ليس بكافر ولا عاص.
والجواب: أن هذا جهل بمراتب آي الكتاب ووقائعه، أو تجاهل بذلك، وذلك أن موسى-عليه السّلام-كان له مع الله-عز وجل-في هذا المقام ميقاتان: أحدهما هذا وكان فيه وحده، وسأل الرؤية فيه لنفسه، والثاني بعد هذا، وهو مذكور بعد على ترتيب / [١٩٤/ل] الواقع عند قوله-عز وجل-: ﴿وَاِخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيّايَ أَتُهْلِكُنا بِما﴾