ثم لا يخلو إما أن يكون المراد: يأمرهم بما يعرفون في الشرائع السابقة، أو بما يعرفون في عقولهم، والأول باطل وإلا لكان شرع النبي صلّى الله عليه وسلّم تابعا لشرع من قبله، وهو باطل؛ فتعين الثاني، وهو المطلوب. والقول بالتحسين والتقبيح هو رأي المعتزلة ومن تابعهم.
والجمهور قالوا: إن الحسن والقبح يطلق باعتبارات ثلاثة:
أحدها: بمعنى الكمال والنقص؛ كقولنا: العلم حسن، والجهل قبيح، والثاني: بمعنى ما يلائم الطبع وينافره كقولنا اللذة حسن والألم قبيح، والثالث: بمعنى المدح والثواب على العمل شرعا أو الذم والعقاب شرعا، والحسن والقبح بالاعتبارين الأولين عقليان، أي يدركان بالعقل، وبالاعتبار الثالث شرعيان، أي لا يدركان إلا بالشرع، وهو محل النزاع، أما الأولان فمحل وفقا معهم، وحينئذ يجوز حمل الآية على الاعتبار الأول أي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر اللذين هما من باب الكمالات والنقائص؛ لأن ذلك هو الذي يحتاج إليه في إقامة الدعوة، ويستميل القلوب إلى الإجابة، وأما المعروف والمنكر اللذان بحسب الذم والمدح والثواب والعقاب، فيثبت حكمها بدليل منفصل.
وتحقيق مذهب المعتزلة في هذا أنهم لا يقولون: إن العقل حاكم موجب أو محرم، وإنما يقولون: إنه مدرك بما جعل الله-عز وجل-فيه القوة/ [٩٢ ب/م] أن هذا الفعل ينبغي أو لا ينبغي، ويدرك إدراكا حكميا أي من حجة الحكمة أن هذا الفعل مما تقتضي السياسة الشرعية أن يثاب أو يعاقب عليه لا أنهم يقولون: إن الشارع إن لم يثب أو يعاقب عليه عوقب أو استحق العقاب، قالوا: وإنما قلنا ذلك؛ لأن المعلومات/ [١٩٧/ ل] على ضربين حقائق وتكاليف؛ فالحقائق ثلاث: واجب: وهو ما يلزم من عدمه محال لذاته، وممتنع: وهو ما لا يلزم من عدمه محال لذاته، وممكن خاص: وهو ما لا يلزم محال وجوده ولا عدمه، والتكاليف ثلاث: مأمور به، ومزجور عنه، ومخير فيه بين فعله وتركه، ثم لما كان العقل يدرك أحكام الحقائق من حيث الجواز والامتناع والوجوب، فكذلك يدرك أحكام التكاليف من حسن وقبح وما بينهما.
وأجاب الجمهور: بأنا لا نسلم أنه يلزم من إدراكه أحكام الحقائق العقلية أنه يدرك أحكام التكاليف الشرعية، وهل محل النزاع بيننا إلا هذا بعينه؟