بأمرين أحدهما بيان ما يختلفون فيه، والثاني تكذيب الكفار في دعاويهم الباطلة كإنكار البعث ونحوه، وقد دلت هذه على أن كشف الحقائق المختلف فيها إنما يكون في الآخرة، لأن هذه الدار كما أنها دار تكليف لا جزاء كذلك هي دار خلف لا كشف.
﴿إِلاّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنّاسِ أَجْمَعِينَ﴾ (١١٩) [هود: ١١٩] ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ (٢٢) [ق: ٢٢]. وشبهتهم في إنكار البعث: أن الأجسام إذا انحل تركيبها تلاشت وصارت عدما محضا ونفيا صرفا، وإعادة ما ذلك شأنه محال.
وجوابه: لا نسلم أنها إذا انحلت صارت عدما محضا بل تنحل إلى جواهر مفردة قارة الحقائق حافظة لمواد الأجسام، والإعادة بجمع تلك الجواهر وتأليفها ثانيا كما كانت أولا، ومثاله عقد انقطع سلكه فتفرق حبه، فإعادته عقدا بجمعه ونظمه، سلمنا أنها تصير عدما محضا. لكنها مع ذلك يجوز إعادتها عن عدم، كما جاز ابتداؤها عن عدم، وتمام القول في هذا يأتي إن شاء الله-عز وجل-:
﴿إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (٤٠) [النحل: ٤٠] هذا بيان لوقوع البعث ومستند صحته، وهو صلاحية القدرة الأزلية لفعل/ [١١٨ ب/م] كل ممكن، فإن قيل: لا نسلم أن إعادة المعدوم وبعث الموتى ممكن حتى يدخل تحت عموم المقدورية، قلنا: بيان إمكانه من وجهين: أحدهما أنه لا يلزم من فرض وقوعه محال لذاته.
الثاني: أن كل حقيقة وماهية من جسم وغيره فوجودها من حيث هو إما ممكن أو ممتنع، فإن كان ممكنا حصل المقصود وجاز إيجادها ثانيا كإيجادها أولا، وإن كان ممتنعا فامتناعه إما/ [٢٥٣/ل] لذات تلك الماهية، أو لبعض لوازمها، أو لأمر خارج عنها، فإن كان لذاتها أو للازمها لزم ألا توجد ابتداء، وإنه باطل، لأنها قد وجدت ابتداء فتعين أن امتناع وجودها لأمر خارج عن حقيقتها وعارض من عوارضها، وذلك العارض يجوز انفكاكه عنها ومفارقته لها، فيزول امتناع وجودها لزوال سببه، وحينئذ يبقى وجودها جائزا، وهو المطلوب، أو نقول: يكون وجودها معلقا على أمر ممكن؛ وهو انفكاك ذلك الأمر العارض عنها، والمعلق على الممكن ممكن، فكل ماهية إعادتها ممكنة، وهو المطلوب،
ويورد على هذه الآية سؤال، وهو أن الشيء المراد كونه متى يقال له: كن، أفي حال وجوده، أو في حال عدمه؟


الصفحة التالية
Icon