وأجيب بأنه أسند إليه باعتبار الكسب، وقد تكرر هذا، والقاعدة الكلية أنه لما أضيف تارة إلى الرب، وتارة إلى العبد، حمل على الأول باعتبار الخلق، وعلى الثاني باعتبار الكسب، أو التفويض التقديري عند أهل الجبر جمعا بين النصوص.
﴿مَنِ اِهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَلا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَما كُنّا مُعَذِّبِينَ حَتّى نَبْعَثَ رَسُولاً﴾ (١٥) [الإسراء: ١٥] يحتج به الجمهور على أن لا حكم للعقل بإيجاب، ولا حظر ولا تحسين ولا تقبيح، ولا يقتضي شيئا من ذلك، وتقريره أنه لو كان له حكم لتوجه/ [١٢٣ أ/م] التعذيب على من عصى بموجب حكمه قبل بعثة الرسل، واللازم باطل، فالملزوم كذلك، أما الملازمة، فلأنه لو كان له حكم لكان مخالفه/ [٢٦٠/ل] عاصيا قبل البعثة، ولو كان مخالفه عاصيا لتوجه التعذيب عليه حينئذ.
وأما انتفاء اللازم، فلهذه الآية، إذ نفي التعذيب قبل البعثة، وقد سبق القول في هذا، وحكاية مذهب المعتزلة فيه في سورة الأعراف.
﴿وَإِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً﴾ (١٦) [الإسراء: ١٦] ظاهرها متروك بالنص والإجماع على أن الله-عز وجل- لا يأمر بالفحشاء والفسق أمر اقتضاء واستدعاء، ولكن في تأويلها أقوال:
أحدها: أمرناهم بالطاعة فعصوا ففسقوا، فحق عليهم القول ولزمتهم الحجة فعاقبناهم.
الثاني: أمرناهم كثرناهم، ففسقوا، والكثرة سبب الفساد، يقال: أمر بنو فلان أي:
كثروا وعظموا.
الثالث: أمرناهم: جعلناهم يمورون فيها أي: يسعون ويجولون، من مار يمور، ففسقوا وهذا بخلق الدواعي والصوارف فيهم لذلك.
الرابع: أمرناهم بلسان التكوين لا التكليف، ففسقوا كما قلنا في قوله-عز وجل:
﴿*وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللهُ اِنْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اُقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ﴾ (٤٦) [التوبة: ٤٦] مع ﴿اِنْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ﴾ (٤١) [التوبة:
٤١] وذلك بخلق دواعي الفساد فيهم.


الصفحة التالية
Icon