وأما الثانية: فلأن من أتى بكتاب على هذا الوجه بهذا الوصف كان خارقا للعادة، كما لو أن راعي غنم لم يكتب قط ولا فارق الصحراء، ولم يجتمع بكاتب قط فكتب خطّا أعجز فيه ابن مقلة وابن البواب وأضرابهم من مبرزي الكتاب-كان خارقا للعادة قطعا.
وكل خارق للعادة من التحدي وعدم المعارضة فهو نبي آت بمعجز، فهذا برهان واضح.
﴿بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظّالِمُونَ﴾ (٤٩) [العنكبوت: ٤٩] يحتج به من قال: إن حقيقة القرآن الذي هو كتاب الله-عز وجل-وكلامه في الصدور لظاهر الآية مع القول بقدمه، والآخرون قالوا: هذا يوجب حلول القديم في الحادث، وهو قول بالحلول وهو محال، بل إما أن يقولوا بخلقه ليكون حلول مخلوق في مخلوق، أو بقدمه قائما بذات الله-عز وجل- والحاصل منه في الصدور مثال مطابق له أو ذكره وحفظه، كما أن الله-عز وجل- مذكور باللسان والقلب محفوظ فيه، وليست ذاته حالة في شيء.
وقد بالغ بعضهم في التشنيع على من قال بقدم القرآن وحلوله في الصدور، حتى قال:
هؤلاء أكفر من النصارى/ [١٥٧ ب/م]؛ إذ النصارى إنما قالوا بحلول القديم في ذات المسيح/ [٣٣٠ ل] لا غير، وهؤلاء يلزمهم حلول القديم في كل شخص حفظ القرآن أو بعضه ولو آية.
واختلف القائلون بظاهر الآية؛ هل حقيقة القرآن في الصدور كالمظروف في الظرف؟ أو أنه كظهور الوجه في المرآة؟ أو كظهور نقش الخاتم في الشمع؟ على أقوال.
وقال قوم: للقرآن أربع وجودات: وجود عيني، وهو تقرر حقيقته في الخارج، إما بذات الله-عز وجل-أو غيره على الخلاف في حدوثه وقدمه، ووجود ذهني، هو حصول صورة في الذهن مطابقة له وحفظه هو ذلك مع إمكان استحضاره لفظا ونظما بحسب الاختيار، ووجود لساني وهو تلاوته، وبناني وهو كتابته بالبنان.