[الرحمن: ١٤ - ١٥] قد سبق نظيره في «الحجر»، وصح عن النبي صلّى الله عليه وسلّم أنه قال: «خلق الملائكة من نور، وخلق الجان من نار، وخلق آدم مما قص عليكم» (١) أي: من تراب، ثم هو طين لازب ثم حمأ مسنون، ثم صلصال كالفخار، كأنه صلّى الله عليه وسلّم أشار بعموم قوله: «ما قص عليكم» إلى هذه الأطوار، ولو قال: من تراب أو طين لما استوعبها.
واعلم أن أكثر الفلاسفة والأطباء أنكروا وجود الجن على ما ورد به الشرع، لأنه ورد بأنهم خلقوا من نار، والنار عنصر واحد، والجسم إنما يتقوم من العناصر الأربعة بتفاعل كيفياتها بعضها في بعض، وذلك لا يمكن في العنصر الواحد.
ورد عليهم بوجهين:
أحدهما: بما نبه الله-عز وجل-عليه في هذه الآية، وهو أنهم خلقوا من مارج من نار، وهو النار المختلفة بالدخان كأنهما مزجا، أي: خلط أحدهما بالآخر، وأنت ترى بين آخر لهيب النار وأول الدخان شيئا يجمع بين الحمرة والسواد ولطافة النار وكثافة الدخان، كأنه مركب منهما، فذلك هو المارج، وليس ذلك نارا صرفا بل خالطه لطيف العناصر الأربعة؛ لأن الدخان لطيف الوقود والوقود جسم طبيعي مؤلف من العناصر الأربعة، فالدخان لطيف العناصر، وذلك يمكن تأليف الجسم منه وإن كان لطيفا للطف مادته، ومن ثم كان للجن قوة النفوذ في بعض الكثائف والطيران في الهواء والتشكيل/ [١٩٦ ب/م] بالأشكال المختلفة؛ لأن الدخان كذلك، ألا تراه يخرج من مسام الجدران ويرتفع في الهواء شبيها بالغمام، ويتشكل بالأشكال، تارة مستديرا، وتارة مستطيلا، وتارة مربعا، ومن ثم كانوا أصبر على النار، وأقوى على علاجها وسياستها من البشر؛ لأنها والدخان الذي هو من آثارها مادتهم، ألا ترى أن البشر لما غلبت عليهم الطينية والمائية كانوا أصبر على الماء منهم على النار للمناسبة بينهما، وقياس العكس يقتضي أن الجن أصبر على النار منهم على الماء للمضادة بينهما.
الوجه الثاني: أنهم من العناصر، غير أن الجزء الناري لما غلب عليهم، قيل: خلقوا من نار؛ تغليبا له في الذكر تبعا للواقع في الحقيقة، كما قيل للإنسان: خلق من تراب لغلبته عليه، وإن كان مخلوقا من العناصر.
[والشيخ علاء الدين بن النفيس من متأخري الفلاسفة رد في كتابه: «الشاهد» على