الفهم، وذلك بالوقوف عند حدود ما ذكره القرآن. فلو كان فيما وراء ذلك حكمة وفائدة، لما أغفلها النص، وهذا المنهج وإن رأيناه عند بعض المفسرين قديمًا، إلا أنه كان للأستاذ الفضل الأكبر في إحيائه حديثًا، وتتجلى لك تلك البراعة في مقدرة الشيخ على ترك ما أبهم القرآن بل الدعوة إلى هذا المنهج لا التطبيق فحسب، إذا تأملت معي الحبارات الآتية: يقول عند قوله تعالى ﴿قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ﴾ [البروج: ٤]: (وأصحاب الأخدود قوم كافرون، ذوو بأس وقوة، أصابوا قومًا مؤمنين غاظهم إيمانهم، فحملوهم على الكفر، وأكرهوهم أن يرتدوا إليه فأبوا، فشقوا لهم شقًا في الأرض وحشوه بالنار، وجاءوا بالمؤمنين واحدًا واحدًا وألقوهم في النار... أما تعيين أصحاب الأخدود. وأين كانوا ومن هم أولئك المؤمنون وأين كان منزلهم من الأرض فقد كثرت فيه الروايات.. غير أن المؤمن لا يحتاج في الاعتبار، وإشعار الموعظة قلبه إلى أن يعرف القوم والجهة، وخاصة الدين الذي كان عليه أولئك أو هؤلاء، حتى يطير وراء القصص المشحونة بالمبالغات، والأساطير المحشوة بالخرافات، وإنما الذي عليه هو أن يعرف من القصة ما ذكرناه أولًا. ولو علم الله خيرًا في أكثر من ذلك لتفضل علينا به) (١).
وكذلك عند تفسيره قول الله تعالى: ﴿فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ [البقرة: ٥٤] في سورة البقرة يذكر ما قاله (الجلال)، وما جاء في التوراة عن العدد الذي قتل ثم يقول (والقرآن لم يعين العدد. والعبرة المقصودة من القصة لا تتوقف على تعيينه فنمسك عنه) (٢).
وعند تفسيره قوله تعالى: ﴿وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ﴾ [البقرة: ٥٨] يقول: ونسكت عن تعيين القرية كما سكت القرآن) (٣).
(٢) تفسير المنار جـ ١ ص ٣٢٠.
(٣) تفسير المنار جـ ١ ص ٣٢٤.