لهؤلاء المتزمتين ينبغي أن يعتبروا به. لقد رأينا كيف تأثر بالسلفية، ونقلت نصوصًا من كلامه، كان فيها واضح المنهج قريبًا من أفهام الناس، وهو مع ذلك كله يوفق بين السلفية والتصوف منصفًا كليهما. ومن الخير أن أقتطف بعض عباراته عن التصوف، ليتبين فيها حسن إدراكه لطبيعة هذا الدين. وهو إدراك يستحق الإعجاب، ويستدعي التقدير، يقول:
(اشتبه على بعض الباحثين، السبب في سقوط المسلمين، في الجهل العميم... وظنوا أن التصوف من أعظم الأسباب لسقوط المسلمين في الجهل بدينهم، وبعدهم عن التوحيد، الذي هو أساس عقائدهم، وليس الأمر عندنا كما ظنوا...
ظهر التصوف في القرون الأولى للإسلام، فكان له شأن كبير، وكان الغرض منه في أول الأمر تهذيب الأخلاق، وترويض النفس بأعمال الدين وجذبها إليه، وجعله وجدانًا لها وتعريفها بأسراره وحكمه بالتدرج. ابتلي الصوفية في أول أمرهم بالفقهاء الذين جمدوا على ظواهر الأحكام المتعلقة بالجوارح، والتعامل، فكان هؤلاء ينكرون عليهم معرفة أسرار الدين، ويرمونهم بالكفر. وكانت الدولة والسلطة للفقهاء لحاجة الأمراء والسلاطين إليهم، فاضطر الصوفية إلى إخفاء أمرهم ووضع الرموز والاصطلاحات الخاصة بهم، وعدم قبول أحد معهم إلا بشروط واختبار طويل.. فكانوا يختبرون أخلاق الطالب وأطواره زمنًا طويلًا، ليعلموا أنه صحيح الإرادة صادق العزيمة، لا يقصد مجرد الاطلاع على حالهم، والوقوف على أسرارهم، وبعد الفتنة يأخذونه رويدًا رويدًا. ثم إنهم جعلوا للشيخ (المُسلِّك) سلطة خاصة على مريديه، حتى قالوا: يجب أن يكون المريد بين يدي الشيخ كالميت بين يدي الغاسل، لأن الشيخ يعرف أمراضه الروحية وعلاجها. فإذا أبيح له مناقشته ومطالبته بالدليل تتعسر معالجته أو تتعذر. فلا بد من التسليم له في كل شيء من غير منازعة، حتى لو أمره بمعصية لكان عليه أن يعتقد أنها لخيره، وأن فعلها نافع له ومتعين عليه فكان من قواعدهم التسليم المحض والطاعة العمياء.


الصفحة التالية
Icon