فهذا ابن قيم الجوزية يعقد فصلًا عن ترتيب سياق هديه هو مع الكفار والمنافقين. يقول فيه: "ثم أذن الله له بالهجرة، وأذن له في القتال، ثم أمره أن يقاتل من قاتله، ويكف عمن اعتزله ولم يقاتله، ثم أمره بقتال المشركين حتى يكون الدين كله لله، ثم كان الكفار معه بعد الأمر بالجهاد ثلاثة أقسام: أهل صلحٍ وهدنة، وأهل حرب، وأهل ذمة. فأُمر بأن يتم لأهل العهد والصلح عهدهم، وأن يوفي لهم به ما استقاموا على العهد، فإن خاف منهم خيانة نبذ إليهم عهدهم ولم يقاتلهم حتى يعلمهم بنقض العهد، وأمر أن يقاتل من نقض عهده، ولما نزلت سورة براءة ببيان حكم هذه الأقسام كلها، فأمر فيها أن يقاتل عدوه من أهل الكتاب، حتى يعطوا الجزية أو يدخلوا في الإسلام، وأمره فيها بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم، فجاهد الكفار بالسيف والسنان، والمنافقين بالحجة واللسان. وأمره فيها بالبراءة من عهود الكفار، ونبذ عهودهم إليهم. وجعل أهل العهد في ذلك ثلاثة أقسام: قسمًا أمره بقتالهم، وهم الذين نقضوا عهده، ولم يستقيموا له، فحاربهم وظهر عليهم، وقسمًا لهم عهد مؤقت لم ينقضوه، ولم يظاهروا عليه، فأمره أن يتم لهم عهدهم إلى مدتهم، وقسمًا لم يكن لهم عهد ولم يحاربوه، أو كان لهم عهد مطلق، فأُمِر أن يؤجلهم أربعة أشهر، فإذا انسلخت قاتلهم" (١).
وقد ذكر ابن جرير الطبري في تفسيره عن ابن عباس -رضي الله عنهما - ﴿بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (١) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (٢)﴾ براءة من المشركين الذين كان لهم عهد يوم نزلت براءة، فجعل مدة من كان له عهد قبل أن تنزل براءة أربعة أشهر، وأمرهم أن يسيحوا في الأرض أربعة أشهر. وجعل مدة المشركين الذين لم يكن لهم عهد قبل أن تنزل براءة، انسلاخ الأشهر الحرم (٢).
(٢) الطبري، ج ١٠، ص ٤٣.