اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (٢٧)}.
في هذه الآيات: امتنانُ الله تعالى على عباده المؤمنين بنصره لهم في مشاهد كثيرة، ثم يوم حنين كذلك كان النصر بعد استيعابكم الدرس البليغ: أن النصر من عند الله لا بكثرة العَدد والعُدد، فها هي الكثرة لم تغن عنكم شيئًا أول المعركة وقد وليتم هاربين.
فلما ثَبَّتَ الله رسوله وفئة الصدق حوله وأيَّدَهُ بالملائكة اختلفَ تَوَجُّه المعركة، فكان النصر للمؤمنين، والعذاب على الكافرين، ثم يتوب الله برحمته على التائبين، والله هو الغفور الرحيم.
فقوله: ﴿لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ﴾. قال ابن جرير: (يقول تعالى ذكره: لقد نصركم الله أيها المؤمنون في أماكن حرب توطنون فيها أنفسكم على لقاء عدوكم، ومشاهد تلتقون فيها أنتم وهم كثيرة).
وقوله: ﴿وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ﴾.
أي: ويوم حنين أيضًا قد نصركم - سبحانه وتعالى -، بعد ما أعطاكم درسًا بليغًا، أن النصر من عنده وأن الكثرة لم تغن عنكم شيئًا، بل إن كثيرًا منكم ولوا على أعقابهم مدبرين منهزمين.
أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال: [غزونا مع رسول الله - ﷺ - حُنَيْنًا، فلما واجهنا العدو، تقدّمتُ فأعلو ثنيَّة، فاستقبلني رجل من العدو فأرميه بسهم، فتوارى عني، فما دريت ما صنع، ونظرت إلى القوم فإذا هم قد طلعوا من ثنية أخرى، فالتقوا هم وصحابة النبي - ﷺ -، فولّى صحابة النبي - ﷺ - وأرجع منهزمًا وعليّ بُرْدَتان مُتَّزِرًا بإحداهما مرتديًا بالأخرى، فاستطلق إزاري، فجمعتهما جميعًا، ومررت على رسول الله - ﷺ - منهزمًا وهو على بغلته الشهباء، فقال رسول الله - ﷺ -: لقد رأى ابن الأكوع فزعًا] (١).

(١) حديث صحيح. أخرجه مسلم في صحيحه - حديث رقم - (١٧٧٧) - كتاب الجهاد - من حديث سلمة بن الأكوع. وانظر كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين: القرآن والسنة الصحيحة (بحث ٧٢ - القرآن يتحدث عن معركة حنين) (٣/ ١٣٦٤) لتفصيل البحث.


الصفحة التالية
Icon