وقوله تعالى: ﴿أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ﴾.
أي: أم يتهمون رسولهم بالجنون؟ ! فهو يأتي من الكلام بما لا معنى له! !
كلا، فالأمر ليس كذلك، فهم يعلمون حقًّا أنه أرجحهم عقلًا وأفضلهم رأيًا وأثقبهم ذهنًا، وأنه جاءهم بالحق الأبلج والصراط القويم الذي فيه تهديد أهوائهم الفاسدة، وشهواتهم الحاكمة، وأعرافهم الجاهلية البالية. فلما لم يجدوا طريقًا لردِّ هذا الوحي العظيم الذي يهدِّد منازلهم الجاهلية، نسبوه إلى الجنون في محاولة لكسر شوكته - ﷺ -.
وقوله: ﴿وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ﴾.
قال مجاهد وابن جريجٍ: (الحق: الله). والمعنى: ولو أجابهم الله عز وجل وأجرى التدبير على أهواء هؤلاء المشركين لحصل الفساد في السماوات والأرض لفساد أهوائهم وإراداتهم.
وقوله: ﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ﴾.
في تأويل الآية هنا قولان متكاملان:
القول الأول: الذكر هنا هو القرآن، أتيناهم به. قال ابن عباس: (أي ببيان الحق وذكر ما لهم به حاجة من أمر الدين)، فهم عنه معرضون.
القول الثاني: أي: بل أتيناهم بشرفهم، لأن هذا القرآن كان شرفًا لهم إذ نزل على رجل منهم وخوطبوا به بلغتهم فأعرضوا عنه وكفروا به. قال السدي وسفيان: (﴿بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ﴾ أي بما فيه شرفهم وعزّهم). وقال قتادة: (أي بما لهم فيه ذكر ثوابهم وعقابهم).
وقوله: ﴿فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ﴾. أي غافلون مستكبرون.
وقوله: ﴿أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا﴾. قال الحسن: (أجرًا). وقال قتادة: (جُعْلًا). وقوله: ﴿فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ﴾. أي فرزق ربك خير فلا يستطيع أحد أن يرزق مثل رزقه، أو أن ينعم مثل إنعامه.
قال ابن كثير: (أي: أنت لا تسألهم أجرةً ولا جُعلًا ولا شيئًا على دعوتك إياهم إلى الهدى، بل أنت في ذلك تحتسب عند الله جزيل ثوابه، كما قال: ﴿قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ﴾ [سبأ: ٤٧]، وقال: {قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ


الصفحة التالية
Icon