ثم قال: وأيضًا فإن الله سبحانه أحبَّ أن يُظهِرَ منزلةَ رسوله وأهلِ بيته عنده، وكرامتهم عليه، وأن يخرجَ رسولَه عن هذه القضية، ويتولى هو بنفسه الدفاعَ والمنافحةَ عنه... بل يكونُ هو وحدَه المتوليَ لذلك، الثائرَ لرسولِه وأهل بيته.
وأيضًا فإن رسول الله - ﷺ - كان هو المقصود بالأذى، والتي رُمِيَتْ زوجتُه، فلم يكن يليق به أن يشهد ببراءتها مع علمه، أو ظنه الظن المقاربَ للعلم ببراءتها، ولم يظنَّ بها سوءًا قط، وحاشاه، وحاشاها، ولذلك لما استعذر من أهل الإفك، قال: "مَنْ يعذِرني في رجل بلغني أذاهُ في أهلي، والله ما علمتُ على أهلي إلا خيرًا، ولقد ذكروا رجلًا ما علمت عليه إلا خيرًا، وما كان يدخل على أهلي إلا معي"، فكان عنده من القرائن التي تشهد ببراءة الصديقة أكثر مما عند المؤمنين، ولكن لكمال صبره وثباته، ورفقه، وحسن ظنه بربه، وثقته به، وفّى مقامَ الصبر والثبات، وحسن الظن بالله حقَّه، حتى جاءه الوحي بما أقَرَّ عينَهُ، وسَرَّ قلبَهُ، وعظمَ قدره، وظهر لأمته احتفالُ ربه به، واعتناؤه بشأنه) (١).
٦ - ثبوت إقامة الحد على القاذفين:
فقد قال الله جل ثناؤه في سورة النور: ﴿وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (٤)﴾.
لقد أمر النبي - ﷺ - بإقامة الحد - حد القذف - على مسطح وحسان وحمنة.
فقد أخرج البيهقي بسند حسن عن عَمْرَةَ بنت عبد الرحمن بن أسعد بن زرارة، عن عائشة رضي الله عنها أنَّها قالت: [لما تلا رسول الله - ﷺ - القصة التي نزل بها عذري على الناس نزل رسول الله كيد فأمر برجلين وامرأة ممن كان باء بالفاحشة في عائشة فجلدوا الحد، قال: وكان رماها عبد الله بن أبي ومسطح بن أثاثة وحسان بن ثابت وحمنة بنت جحش أخت زينب بنت جحش رموها بصفوان بن المعطل السلمي] (٢).
قال ابن القيم في زاد المعاد: (ولما جاء الوحيُ ببراءتها، أمرَ رسول الله - ﷺ - بمن صَرَّح بالإفك، فحُدُّوا ثمانين ثمانين، ولم يُحد الخبيثُ عبد الله بن أبي، مع أنه رأس أهل الإفك، فقيل: لأن الحدود تخفيف عن أهلها وكفارة، والخبيث ليس أهلًا
(٢) انظر سنن البيهقي (٨/ ٢٥٠) بإسناد حسن. ويشهد له ما في سنن الترمذي (٣١٨١) كتاب التفسير، وكذلك ما في سنن ابن ماجة (٢٧٦٥)، كتاب الحدود.