وتسخيره - تعالى - له أسباب التمكين من الجنود الكثيرة، والخبرات الكبيرة، وبعض نواميس الطبيعة.
وقد ذكر المفسرون تفاصيل سرير بلقيس الذي كانت تجلس عليه وأنه من ذهب مُفَصَّص بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ وغير ذلك، والمهم بالنسبة لنا ما ذكر القرآن الكريم أنَّه عرش عظيم. فأراد سليمان عليه الصلاة والسلام أن يُريها صغار قوتها أمام عظمة ما آتاه الله من الملك والتسخير والتمكين. فخاطب جنوده قائلًا: ﴿أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ﴾. قال ابن عباس: (مستسلمين).
قال ابن زيد: (استدعاه ليريها القدرة التي هي من عند الله، ويجعله دليلًا على نبوته، لأخذه من بيوتها دون جيش ولا حرب).
وقوله: ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ﴾.
قال مجاهد: ﴿قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ﴾ مارِدٌ من الجن). وقال ابن عباس: (﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ﴾: يعني قبل أن تقومَ من مجلسك). وقال مجاهد: (مقعدك).
وقوله: ﴿وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ﴾. قال ابن عباس: (أي قويٌّ على حَمْلِهِ، أمينٌ على ما فيه من الجوْهر).
وقوله: ﴿قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾.
الظاهر أن سليمان أراد أعجل من ذلك في إحضار السرير ليظهر لبلقيس عظمة ما هو عليه مِمّا وهبه الله من الملك والتمكين والتسخير الذي لم يكن لأحد قبله، ولا يكون لأحد بعده. فقام جنّي آخر من المؤمنين ممن عنده علم على منهاج النبوة فقال لسليمان: ﴿أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ﴾.
قال وهب بن منبه: (امدُد بَصَرك، فلا يبلغ مداه حتى آتيك به).
قلت: وقد ذكر المفسرون هنا أقوالًا كثيرة في تعريف الذي عنده علم من الكتاب، وبعضهم أتى من ذلك بالعجائب، ولا دليل عندهم تقوم به الحجة، وإنما سياق الآيات يقتضي ما ذكرنا والله تعالى أعلم.
وفي ذلك تنبيه لفضل العلم وشرفه ومكانته، فإنَّه لا يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وقد رأينا في زماننا هذا سَبْقَ الأمم العاملةِ المتقنةِ الأممَ النائمةَ الضعيفةَ إنما كان بالعلم والدأب والإتقان. فإذا جمع العَالِمُ بين علم الدنيا والآخرة، وبين


الصفحة التالية
Icon