وأما قوله: ﴿الم﴾ -فقد سبق ذكر مفهوم هذه الحروف المقطعة في أوائل السور- كما في أول سورة البقرة. والروم: هم من سلالة العِيص بن إسحاق بن إبراهيم، وهم أبناء عَمِّ بني إسرائيل، ويقال لهم أيضًا: بنو الأصفر. وكانوا على دين اليونان، واليونان من سلالة يافثَ بن نوح، أبناء عَمِّ التركِ. وكانوا يعبدون الكواكب السيّارة السبعة، ويقال لها: المُتَحيّرة، ويُصَلُّون إلى القطب الشمالي، وهم الذين أسَّسُوا دمشق، وبَنَوا معبدها، وفيه محاريب إلى جهة الشمال. فكان الروم على دينهم إلى بعد مَبْعثِ المسيح بنحو من ثلاث مئة سنة، وكان مَن ملك الشام مع الجزيرة منهم يقال له: قَيصَرُ. فكان أولَ مَن دخل في دين النصارى من ملوك الروم قسطنْطينُ بن قسطس، وأمه مريم الهيلانية الغندقانية من أرض حَرّان، كانت قد تنصَّرَت قبله، فدعته إلى دينها، وكان قبل ذلك فيلسوفًا، فتابعها -يقال: تَقِيَّة- واجتمعت به النصارى، وتناظروا في زمانه مع عبد الله بن أريوس، واختلفوا اختلافًا كثيرًا منتشرًا مُتَشَتِّتًا لا ينضَبِطُ، إلا أنه اتفق من جماعتهم ثلاثُ مئةٍ وثمانيةَ عشرَ أسقفًا، فوضعوا لِقُسطنطين العقيدة، وهي التي يسمونها الأمانة الكبيرة، وإنما هي الخيانة الحقيرة، ووضعوا له القوانين، يعنُونَ كُتُب الأحكام من تحليل وتحريم وغير ذلك مما يحتاجون إليه، وغيَّروا دين المسيِح عليه السلام، وزادوا فيه ونقصوا منه. وصلّوا إلى المشرق واعتاضوا عن السبت بِالأحَد، وعبَدُوا الصَّليب وأحَلّوا الخنزير. واتخذوا أعيادًا أحدثوها كعيد الصليب والقداس والغطاس. وغير ذلك من البَوَاعِيث والشعَانين، وجعلوا له البابا وهو كبيرهم، ثم البتارِكَة ثم المَطارِنَة، ثم الأساقفة والقَسَاوِسة، ثم الشمامِسَة. وابتدعوا الرهبانية. وبنى لهم الملك الكنائس والمعابد، وأسَّسَ المدينة المنسوبة إليه وهي القسطنطينية، يقال: إنه بني في أيامه اثني عشر ألف كنيسة، وبنى بيتَ لحم بثلاثة محاريبَ، وبنت أمه القُمَامَة، وهؤلاء هم المَلَكِيَّة، يعنون الذين هم على دين الملِك. ثم حدثت بعدهم اليعقوبية أتباع يعقوب الإسكاف، ثم النَّسطُورِية أصحاب نسطورا، وهم فِرَقٌ وطوائف كثيرة، كما قال رسول الله - ﷺ -: "إنهم افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة". والغرض أنهم استمروا على النصرانية، كُلَّما هلك قيصر خلفه آخرُ بعدَه، حتى كان آخرُهم هرقلَ. وكان من عقلاء الرجال، ومن أحزم الملوك وأدهاهم، وأبعدهم غَورًا وأقصاهم رَأيًا، فتَمَلَّكَ عليهم في رِياسَة عظيمة وأُبَّهَةٍ كبيرة، فناوأه كِسْرى ملك الفرس، ومَلَكَ البلاد كالعراق وخراسان والرّي، وجميع بلاد المعجم، وهو سابُور ذو الأكتاف. وكانت مملكته أوسَعَ من مملكة قيصرَ، وله رياسةُ المعجم وحَماقَةُ الفُرس، وكانوا مجوسًا يعبدون النار. فتقدّم عن عكرمة أنه بعث


الصفحة التالية
Icon