الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ}. قال ابن عباس: (هو كقول الله: ﴿وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ﴾. [الإسراء: ٢٩] يعني بذلك أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم لا يستطيعون أن يبسطوها بخير).
وعن عكرمة قال: (قال أبو جهل: لئن رأيت محمدًا لأفعلن ولأفعلن، فأنزلت: ﴿إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا﴾ إلى قوله ﴿فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ قال: فكانوا يقولون: هذا محمد، فيقول: أين هو؟ أين هو؟ لا يبصره).
قلت: والمقمح لغة المقنع، وهو أن يحدر الذقن حتى يصير في الصدر ثم يرفع رأسه (١). فهو مثل ضربه الله تعالى لهم في امتناعهم من الهدى كامتناع المغلول، وهو تمثيل لحالة الكبر التي طغت في قلوب المكذبين بالرسل، فانتصب عنقُه كناية وتعبيرًا عن الاستكبار. كما قال القرطبي: (إن هؤلاء صاروا في الاستكبار عن الحق كمن جُعل في يده غُلٌّ فجمعت إلى عنقه. فبقي رافعًا رأسه لا يخفضه، وغاضًا بصره لا يفتحه). قال: (والمتكبر يوصف بانتصاب العنق).
قلت: ولا شك أن الله سبحانه يحرمهم التوفيق إلى الهدى عقوبة منه بهم، نتيجة استكبارهم. قال قتادة: (﴿فَهُمْ مُقْمَحُونَ﴾: أي فهم مغلولون عن كل خير). وقال مجاهد: (رافعو رؤوسهم، وأيديهم موضوعة على أفواههم). أي أيمان الكفار مغلولة لأعناقهم بالأغلال فلا تبسط في خير. قال أبو جعفرة (فكنى عن الأيمان ولم يجر لها ذكر لمعرفة السامعين بمعنى الكلام).
وقوله: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا﴾.
والسد هو الحاجز بين الشيئين، فهم قوم قد زين الله لهم سوء أعمالهم وتركهم يتخبطون ويترددون، فهم يعمهون ولا يبصرون رشدًا ولا يمتثلون حقًّا.
كما قال مجاهد: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا﴾ عن الحق فهم يترددون). وقال قتادة: (ضلالات). وقال ابن زيد: (جعل هذا سدًّا بينهم وبين الإسلام والإيمان، فهم لا يخلصون إليه، وقرأ: ﴿وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾. وقرأ: ﴿إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ الآية كلها. وقال: من منعه الله لا يستطيع).

(١) وقيل الإقماح: رفع الرأس وغض البصر. ويقال: أَقْمَحَهُ الغُلُّ: إذا ترك رأسه مرفوعًا من ضيقه. وأقمحت الدابة إذا جذبت لجامها لترفع رأسها. وقمح البعير إذا رفع رأسه عند الحوض وامتنع من الشرب فهو قَمِحٌ أو قامحٌ.


الصفحة التالية
Icon