أعرضوا. ويدل على ذلك قوله تعالى بعده: ﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾.
وجملة القول: أن الله سبحانه يعرفهم نِعَمَهُ عليهم ويذكرهم قوته وغضبه إذا حلّ بهم، فلو شاء أغرقهم كما فعل بمن كفر من أسلافهم، ولو شاء متّعهم إلى آجال عسى أن يتداركوا أمرهم، أو يوم القيامة يفضحهم ويعذبهم. ثم هو سبحانه يذكرهم مصائر الأمم والوقائع والآجال، وما مضى من الدنيا وما يستقبلهم من الآخرة، وحقائق القدر كالموت والقبر، ومحاولات الشيطان إفساد آخرتهم عليهم، ومغبّة اتباع الشهوات، ولكن هيهات فقد صُرِفت القلوب عن أمر بارئها، وأعرضت النفوس عن تعظيم ربها، فهي تدفع ثمن إهمال الرياء يعمر القلوب والكبر والغرور، والأمراض التي ترتع في حياتها.
وقوله تعالى: ﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾.
قال ابن جرير: (معنى الكلام: وإذا قيل لهم اتقوا ما بين أيديكم وما خلفكم أعرضوا وإذا أتتهم آية أعرضوا).
فيكون قوله: ﴿إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ﴾ جوابًا لقوله: ﴿اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ﴾ ولقوله: ﴿وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ﴾، فكان الإعراض جوابهم عن الأمرين.
وقوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.
يصف فيه سبحانه صورة قسوة قلوب هؤلاء المشركين، وما وصلت إليه من آثار الكبر واتباع الشهوات، فهي لم تعد تصغي لرحمة المحتاجين والمساكين، فقد غلّفها العناد والكبر وحب الرياسة واستعباد الضعفاء وظلم الأبرياء، فحين ذكرهم المؤمنون بإطعام المحاويج والفقراء من المسلمين احتجوا بمشيئة الله استهزاء فقالوا: إنما نحن نوافق مشيئة الله فيهم، إن أنتم إلا في ضلال مبين في أمركم لنا بالإنفاق، فحرموهم وقالوا: لو شاء الله أطعمكم فلا نطعمكم حتى ترجعوا إلى ديننا. وقد كان بلغهم من قول المسلمين أن الله هو الرازق، فقالوا هزوًا: أنرزق من لو يشاء الله أغناه. وكانوا يسمعون المؤمنين يُعَلِّقُونَ الأفعال بمشيئة الله، فيقولون لو شاء الله لأغنى فلانًا ولأعز فلانًا، فأخرج الكفار هذا الجواب مخرج الاستهزاء بالمؤمنين، أي إذا كان الله رزقنا فهو قادر على أن يرزقكم فلم تلتمسون الرزق منا؟.