غدوًا وعشيًا، وشاركته بذلك الطير فسبحت واجتمعت في الهواء تعظم الجبّار المتكبر سبحانه، وزودناه فوق ذلك بأسباب الملك والقوة وكل ما يحتاج إليه الملوك من الجند والحديد لينصر الحق ويحكم به، وأعطيناه من الحكمة والفهم والنبوغ في الحكم والقضاء ما يستعين به مع الحديد والقوة لإقامة العدل في الأرض والحكم بمنهج الوحي، ثم قصّ سبحانه امتحانه لداود عليه السلام ليثبت لديه إقامة منهج العدل في الحكم والقضاء، وذلك حين كان في محرابه وهو أشرف مكان في داره، فتسوّر رجلان عليه المحراب ففزع إذ دخلوا عليه فجأة من غير بابه، يختصمان إليه ويسألانه أن يحكم بالعدل والحق بينهما ولا يُسرف بالميل إلى أحدهما، فذكر أحدهما أن لصاحبه تسعة وتسعين نعجة وهي أنثى الضأن وأن له نعجة واحدة فسأله أن يكفلها له فيصبح له مئة، فلم يسمع داود عليه السلام من الآخر وإنما قضى بما سمع من طرف واحد بأن صاحب ذلك السائل قد ظلمه بهذا العمل والسؤال والإحراج، وبأن أصحابَ السوء كثير، والصالحين منهم قليل، ثم تبين لداود بأنه قد فتنه الله بهذه المسألة وبأنه قد تسرع في الحكم دون أن ينصت ويصغي لسماع الطرف الآخر فاستغفر ربه سبحانه فتاب الله عليه ووعده بحسن المنزلة يوم القيامة فإنه من عباد الله الصالحين. ثم أعاد له سبحانه صياغة نتيجة ذلك الامتحان والاختبار، بأن الله جل ثناؤه قد اختاره حكمًا في الأرض بمنهج الوحي والحق والعدل، فليحذر مسالك الشيطان ووساوسه واتباع الرأي والهوى دون حجة أو علم أو تثبت، فإن الذين يضلون عن اتباع منهج الوحي والحق والعدل في حكمهم ويؤثرون عليه أهواءهم وحظوظهم، سينالهم عذاب شديد من الله العظيم، أنْ تحاكموا إلى غير شرعه وأهملوا يوم القيام بين يديه والاستعداد للقائه.
وتفصيل ذلك:
﴿اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ﴾ يا محمد فإن الله قد وعدك بالنصر والظفر فلا يحزنك استهزاؤهم فهم ماضون إلى ذلهم وهوانهم. قال ابن جرير: (فإنا ممتحنوك بالمكاره امتحاننا سائر رسلنا قبلك ثم جاعلو العلو والرفعة والظفر لك على من كذبك وشاقّك، سنتنا في الرسل الذين أرسلناهم إلى عبادنا قبلك، فمنهم عبدنا أيوب وداود بن إيشا). وقيل: المعنى اصبر على قولهم، واذكر لهم أقاصيصَ الأنبياء لتكون برهانًا على صحة نبوتك، والأول أظهر.
وقوله: ﴿وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ﴾. أي صاحب القوة في العلم والعمل. قال ابن عباس: (ذا الأيد: ذا القوة).


الصفحة التالية
Icon