في أنه يعلم ما لا يعلم أحد من خلقه حسب ما صرح بذلك لملائكته فقال: ﴿إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ ذكره القرطبي رحمه الله ثم قال: (وحوشي سليمان عليه السلام أن يكون سؤاله طلبًا لنفس الدنيا، لأنه هو والأنبياء أزهد خلق الله فيها، وإنما سأل مملكتها لله، كما سأل نوح دمارها وهلاكها لله، فكانا محمودين مجابين إلى ذلك، فأجيب نوح فأهلك من عليها، وأُعْطِيَ سليمان المملكة). قلت: ولما مر العفريت بين يدي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وأراد أن يقطع عليه صلاته فأمكنه الله منه وأراد ربطه تذكر قول أخيه سليمان فأطلقه وكأنه كره عليه الصلاة والسلام أن يزاحمه في تلك الخصوصية، إذْ اختص الله سليمان بسخرة الشياطين. وأصل ذلك:
ما أخرج الشيخان والإمام أحمد والنسائي عن أبي هريرة عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: [إن عفريتًا من الجنِّ تفلَّتَ على البارحةَ ليقطع على الصلاة، فأمكنني الله منه، فذَعَتُّهُ: (١)، وأردت أنْ أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كُلُكم، فذكرت قولَ أخي سليمانَ ﴿رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي﴾ فردّهُ الله خاسئًا] (٢). وفي رواية قال رَوْحٌ -أحد الرواة-: فرده خاسئًا.
وروى الإمام مسلم في صحيحه والإمام النسائي في سننه عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: [قام رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يصلي فسمعناه يقول: أعوذ بالله منك. ثم قال: ألعنك بلعنة الله ثلاثًا وبسط يده كأنه يتناول شيئًا، فلما فرغ من الصلاةِ قلنا يا رسول الله! سمعناك تقول في الصلاة شيئًا لم نسمعك تقوله قبل ذلك، ورأيناك بسطت يدك. فقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم-: إن عدوَّ الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي فقلت: أعوذ بالله منك، (ثلاثَ مرات)، ثم قلت: أَلْعَنُكَ بلعنة الله التامة، فلم يستأخر، (ثلاث مرات)، ثم أردت أن آخذه، والله لولا دعوةُ أخينا سليمانَ لأصبحَ مُوثقًا يلعبُ به وِلدان أهل المدينة،. وفي رواية: [صبيان أهل المدينة] (٣).
فاستجاب الله دعوة نبيِّه سليمان عليه الصلاة والسلام بأن لا يكون لأحد بعده ما سخره له سبحانه.
(٢) حديث صحيح. أخرجه البخاري (٤٦١)، (١٢١٠)، (٣٢٨٤)، (٣٤٢٣)، ورواه مسلم (٥٤١)، ورواه ابن حبان (٢٣٤٩)، (٦٤٢٠).
(٣) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح (٥٤٢)، والنسائي (٣/ ١٣). ورواه ابن حبان في صحيحه (١٩٧٩). ورواه البيهقي (٢/ ٢٦٣ - ٢٦٤).