في حكم الزمنى الذين لا يقدرون على إعمالِ جوارحهم والمسلوبي العقول الذين لا استبصار لهم، وفيه تعريض بكل من لم يكن من عمال الله ولا من المستبصرين في دين الله وتوبيخ على تركهم المجاهدة والتامل مع كونهم متمكنين منها). وقال القاسمي: (فيه تعريض بأن من ليس كذلك، كان لا جارحة له ولا بصر).
قلت: واتفقوا على تأويل ﴿وَالْأَبْصَارِ﴾ بأنها البصائر في الدين والعلم. قال قتادة: (أعطوا قوة في العبادة وبصرًا في الدين). وفصل ذلك ابن جرير بقوله: (وذلك أن باليد البطش وبالبطش تُعرف قوة القويّ، فلذلك قيل للقوي ذو يدٍ، وأما البصر فإنه عني به بصر القلب وبه تنال معرفة الأشياء، فلذلك قيل للرجل العالم بالشيء بصير به).
وجملة القول أن الله سبحانه عطف في معرض تسلية نبيّه محمد ععلى ذكر داود وسليمان وأيوب وصبرهم ومكانتهم -عطف عليهم- ذكر آبائهم من أهل النبوة إبراهيم وإسحاق ويعقوب أهل القوة في العلم والعمل، أهل البصيرة في النظر إلى المستقبل، ليتأسى بهم نبينا محمدٌ صلوات الله وسلامه عليه، فيكون جامعًا لكل ما يحبه الله من أسباب التمكين: القوة والبصيرة، فإن جمال الحق بسلطانه ودولته، وعزّ أهله وأتباعه، وإن ذلّ الباطل وأعوانه حين يعز الله أولياءه وعباده فيحكمون بشرعه. فقد قال جل ثناؤه في سورة الأنبياء: ﴿وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (١٦) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (١٧) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ﴾. فهذه الآية في سورة الأنبياء، يبين الله فيها المنهج الذي ارتضاه لجميع الأنبياء، إعزاز الحق وقذفه على الباطل ليقهره، فليتنبه المسلمون لذلك في كل زمان ومكان، وليأخذوا بأسباب العلم والبحث العلمي والقوة، فإنه لا حياة للأمة بالجهل والضعف والهوان، بل بالجماعة والقوة ورص الصفوف والبنيان.
فقد أخرج الإمام مسلم في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: [المؤمن القوي خيرٌ وأححب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كل خير، احرِص على ما ينفعك واستعن بالله ولا تعجِزْ، وإن أصابك شيء، فلا تقُل: لو أني فعلت كان كذا وكذا، ولكنْ قل: قدَّر الله وما شاء فعل، فإن لو تفتح عمل الشيطان] (١).

(١) حديث صحيح. أخرجه مسلم في الصحيح -حديث رقم- (٢٦٦٤) -كتاب القدر- باب الإيمان بالقدر والإذعان له، من حديث أبي هريرة.


الصفحة التالية
Icon