وقوله تعالى: ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾.
قال ابن عباس: (يكتب كُلَّ ما تَكَلَّم به من خير أو شرٍّ، حتى إنه ليكتُب قوله: أكلتُ، شرِبتُ، ذهبتُ، جِئتُ، رأيتُ، حتى إذا كان يوم الخميس عُرِض قولهُ وعمله، فأقِرَّ منه ما كان فيه من خيرٍ أو شرٍّ، وأُلقي سائره).
وفي "الرقيب" ثلاثة أقوال:
١ - المتبع للأمور.
٢ - الحافظ - قاله السدّي.
٣ - الشاهد - قاله الضحاك.
وفي "العتيد" قولان:
أ - الحاضر الذي لا يغيب.
ب - الحافظ المُعَدُّ إما للحفظ وإما للشهادة. قلت: وكل هذه المعاني متقاربة، مفادها أن الإنسان ما يلفظ من قول إلا لديه ملك يرقب عمله ﴿عَتِيدٌ﴾ أي حاضر حافظ.
وقوله: ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ﴾. أي: غمرته وشدته. قال القرطبي: (فالإنسان ما دام حَيًّا تكتب عليه أقواله وأفعاله ليحاسب عليها، ثم يجيئه الموت وهو ما يراه عند المعاينة من ظهور الحق فيما كان اللَّه تعالى وعده وأوعده).
وفي صحيح البخاري عن عائشة قالت: [إنَّ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كان بَيْنَ يديه رَكْوَةٌ -أو عُلْبَةٌ فيها ماء- فجعل يُدْخِلُ يدَهُ في الماء فَيَمْسَحُ بها وَجْهَهُ ويقول: "لا إله إلا اللَّه، إن للموت سَكرات". ثم نَصَبَ يَدَهُ فجعل يقول: "في الرفيق الأعلى"، حتى قُبِضَ ومالَتْ يَدُه] (١).
وقوله: ﴿ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾. قال ابن جرير: (هذه السكرة التي جاءتك أيها الإنسان بالحق هو الشيء الذي كنت تهرب منه، وعنه تروغ).
و﴿مَا﴾ في قوله ﴿مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ لها وجهان من التأويل:
١ - ﴿مَا﴾ موصولة، أي ذلك الذي كنت منه تحيد، أي تبتعد وتهرب.
٢ - ﴿مَا﴾ نافية، والتقدير: ذلك ماهنت تقدر على الفرار منه ولا الحَيْد عنه.