قلت: والآية فيها من بديع الإعجاز الكثير ما يحتمل جَمْعَ هذه المعاني الطيبة المختلفة:
أ- مقام الصديقية أعلى من مقام الشهادة:
فإن الطائفة المنصورة حملة لواء هذا الدين من المؤمنين باللَّه ورسوله هم الصديقون الذين يتلون الأنبياء، والشهداء هم الذين يتلون الصدّيقين، والصالحون يتلون الشهداء، كما قال تعالى: ﴿وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ﴾ [النساء: ٦٩]. ففرّق بين الصديقين والشهداء، فهما صنفان متمايزان، ومقام الصديقيّة أعلى من مقام الشهادة.
وفي الصحيحين من حديث أبي سعيد الخدري قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: [إنَّ أهل الجنة ليتراءَوْنَ أهل الغرف من فوقهم، كما تراءَون الكوكب الدُّرِّيَّ الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب، لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول اللَّه، تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال: بلى، والذي نفسي بيده، ورجال آمنوا باللَّه وصدّقوا المرسلين] (١).
ب- مقام الجهاد والشهادة في سبيل اللَّه في الذِّروة العليا مِن مراتب الإسلام ومنازل الجنان.
قال تعالى: ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّه بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّه وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (٢٠) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (٢١) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ﴾ [التوبة: ٢٠ - ٢٢].
أخرج البخاري وأحمد من حديث أبي هريرة قال: قال رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-: [إنّ في الجنة لمئة درجة، ما بين الدرجة والدرجة كما بين السماء والأرض، أعدّها اللَّه للمجاهدين في سبيله] (٢).
وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة: [أنّ رجلًا قال: يا رسول اللَّه، أخبرني بشيء يعدل الجهاد في سبيل اللَّه؟ قال: لا تستطيع. قال: أخبرني؟ قال: هل تستطيع إذا خرج
(٢) حديث صحيح. أخرجه البخاري (٦/ ٩)، (٦/ ١٠)، في الجهاد، وأخرجه أحمد (٢/ ٣٣٥).