رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-؟ قالت: هو في خِزانته في المَشْرُبَة، فدخلت فإذا أنا بِرباحٍ غلامِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- قاعِدًا على أُسْكُفَّةِ المَشْرُبة، مُدَلٍّ رِجليه على نَقيرٍ مِنْ خَشَبٍ، وهو جِذْعٌ يَرْقى عليه رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ويَنْحَدِرُ، فنادَيْتُ: يا رباحُ! استأذِن لي عِندك على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فَنَظَرَ رَباحٌ إلى الغُرْفَةِ ثُمَّ نَظَرَ إليَّ فلم يَقُل شيئًا، ثم رفعتُ صوتي فقُلتُ: يا رباحُ! استأذِن لي عندك على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإني أظُنُّ أنَّ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- ظَنَّ أني جِئْتُ مِنْ أجل حَفْصَةَ، واللَّه! لئِن أمرني رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- بضَرْبِ عُنُقِها لأضرِبَنَّ عُنَقَها، ورَفَعْتُ صَوْتي، فأوْمَأَ إليَّ أنِ ارْقَهْ، فدَخلتُ على رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وهو مُضْطَجِعٌ على حَصير فَجَلَسْتُ، فأدْنَى عليه إزارَهُ، وليسَ عَلَيْهِ غَيْرُهُ، وإذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جنبِهِ، فَنَظَرْتُ بِبصري في خِزَانَةِ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم-، فإذا أنا بِقَبْضَةٍ مِنْ شَعِيرٍ نَحْوِ الصَّاعِ، ومِثْلِها قَرَظًا (١) في ناحية الغُرْفةِ، وإذا أَفِيقٌ (٢) مُعَلَّقٌ، -قال-: فابْتَدَرَتْ عَيْنايَ. قال: "ما يبكيك؟ يا ابن الخطاب! " قلت: يا نبيَّ اللَّه! ومالي لا أَبْكي؟ وهذا الحصيرُ قد أثَّرَ في جَنْبِكَ، وهذه خِزانتك لا أرى فيها إلا ما أرى، وذاكَ قيصرُ وكِسرى في الثمار والأنهار، وأنت رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- وصَفْوَتُهُ، وهذِه خِزانَتُكَ. فقال: "يا ابنَ الخطاب! ألا ترضى أن تكون لنا الآخِرةُ ولهم الدنيا؟ " قلت: بلى. قال: ودَخَلْتُ عليه حينَ دخَلْتُ وأنا أرى في وجهه الغضبَ، فقلت: يا رسول اللَّه! ما يَشُقُّ عليك من شأنِ النساء؟ فإن كنتَ طَلَّقْتَهُنَّ فإن اللَّه معك وملائكتَه وجبريلَ وميكائيل، وأنا وأبو بكر والمؤمنون معك، وقلَّما تَكَلَّمْتُ -وأحْمَدُ اللَّه- بكلامٍ إلا رَجوْتُ أنْ يكونَ اللَّهُ يُصَدِّقُ قولي الذي أقولُ. ونزلت هذه الآيةُ آيةُ التَّخيير: ﴿عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ﴾ [التحريم: ٥] ﴿إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ﴾ [التحريم: ٤]، وكانت عائِشةُ بِنْتُ أبي بكر وحفصةُ تَظاهرانِ على سائرِ نساء النبي -صلى اللَّه عليه وسلم-، فقلت: يا رسول اللَّه! أَطَلَّقْتَهُنَّ؟ قال: "لا". قلت: يا رسول اللَّه! إني دخلتُ المسجدَ والمسلمون يَنْكتون بالحصى، يقولون: طَلَّقَّ رسولُ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- نِساءَه، أَفَأَنْزِلُ فَأُخَبِرَهُم أَنَّكَ لم تُطَلِّقهُنَّ؟ قال: "نعم، إن شئت" فلم أَزلْ أُحَدِّثُهُ حتى تَحَسَّرَ الغَضَبُ عن وَجْهِهِ، وحتى كَشَرَ فَضحِكَ، وكان مِنْ أَحْسَنِ الناس ثَغْرًا، ثمَّ نزلَ نبيُّ اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- فَنَزلْتُ أَتَشَبَّثُ بالجِذعِ، ونزلَ رسول اللَّه -صلى اللَّه عليه وسلم- كأنَّما يمشي على الأرض ما يَمَسُّهُ بيده، فقلت: يا رسول اللَّه! إنّما كُنْتَ في الغُرْفَةِ تِسْعَةً وَعِشْرِينَ. قال: "إنَّ
(٢) أفيقٌ: هو الجلد الذي لم يتم دباغه، وجمعه أَفَق، كأديم وأَدَم.