فكانت لِمُرادٍ ثُمَّ لبني غُطَيْفٍ، بالجُرْفِ عِنْدَ سَبَأٍ، وأمّا يعوقُ: فكانت لِهَمْدانَ، وأَمَّا نَسْرٌ: فكانَتْ لِحِمْيَرَ، لآلِ ذِي الكَلاع، أسماء رجالٍ صالحين مِنْ قومِ نوح، فلما هَلَكُوا أوْحى الشيطان إلى قومهم أن انْصِبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنْصابًا وسَمّوها بأسْمائهم، فَفَعَلُوا، فلم تُعْبَدْ، حتى إذا هلك أولئِكَ وتَنَسَّخَ العِلْمُ عُبِدَتْ] (١).
وقال ابن جرير: حَدَّثَنَا ابن حُمَيد، حدَّثنا مهرانُ، عن سفيان، عن موسى، عن محمد بن قيس ﴿وَيَعُوقَ وَنَسْرًا﴾ قال: (كانوا قومًا صالحين بين آدم ونوح. وكان لهم أتباعٌ يقتدون بهم، فلما ماتُوا قال أصحابهُم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صَوَّرناهم كان أشوق لنا إلى العبادةِ إذا ذكرناهم. فصَوَّروهم، فلما ماتوا وجاء آخرون دَبَّ إليهم إبليسُ فقال: إنما كانوا يعبدُونهم وبهم يُسْقَون المطرَ. فعبدوهم).
والخلاصة: هذه كانت أكبر أصنامهم التي صوَّروها وأوحى الشيطان إليهم فنصبوا لها أنصابًا وعبدوها. فودّ صنم على صورة رجل، وسواعٌ على صورة امرأة، ويغوث على صورة أسد، ويعوق على صورة فرس، ونسرٌ على صورة نسر. وقد انتقلت هذه الأصنام عن قوم نوح إلى العرب، فكان ودّ لكلب، وسواع لهمدان، ويغوث لمذحج، ويعوق لمراد، ونسر لحمير.
وقوله: ﴿وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا﴾. أي: وقد ضلّ بعبادة هذه الأصنام خلق كثير، فاستمرت عبادتها في العرب والعجم إلى الأزمنة التي بعدها إلى يومنا هذا.
قال ابن جرير: (فَنُسِبَ الضلال إذ ضَلَّ بها عابدوها إلى أنها المُضِلّة).
وقد قال الخليل عليه السلام في دعائه: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (٣٥) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ﴾ [إبراهيم: ٣٥ - ٣٦].
وقوله: ﴿وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا﴾. قال ابن كثير: (دعاءٌ منه على قومه لِتَمرّدهم وكُفرهم وعِنادهم، كما دعا موسى -عليه السلام- على فرعون وملئِه في قوله: ﴿رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ﴾ [يونس: ٨٨]. وقد استجاب اللَّه لكل من النَّبِيَّيْنِ في قومه، وأغرق أمَّته بتكذيبهم لما جاءهم به).