﴿فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا﴾ [الكهف: ٨٢]).
وقال في موضع آخر: (ومن ذلك الأدب الرفيع قول إبراهيم -صلى اللَّه عليه وسلم-: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ﴾ عطفًا على قوله: ﴿الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (٧٨) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ﴾ [الشعراء: ٧٨ - ٧٩]. فنسب كل الخير للَّه سبحانه، وتأدب مع اللَّه فقال: ﴿وَإِذَا مَرِضْتُ﴾ ولم يقل وإذا أمرضني، مع أن الخلق كله للَّه، ولكن ما أصابه من مرض ينسبه إلى سبب من الذنب أو التقصير في حق اللَّه تبارك وتعالى. ومثله قول موسى عليه السلام لما تمتع بالقوة وأدْهَشَ من حوله أمام البئر قال متأدبًا متواضعًا للَّه: ﴿رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ﴾ [القصص: ٢٤]. ومثله قول أيوب: ﴿أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾ [الأنبياء: ٨٣]. فهو غاية في الأدب مع اللَّه نسب الضر وإصابته له لتقصير منه فمسَّه، ولم يقل فعافني واشفني بل قال متواضعًا مخبتًا مستسلمًا للَّه: ﴿وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ﴾. وكذلك قال آدم من قبل: (﴿رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الأعراف: ٢٣] ولم يحتج بالقضاء والقدر) (١).
قلت: وهذا الأدب الرفيع قد ورد في السنة الصحيحة في أحاديث، منها:
الحديث الأول: روى مسلم في صحيحه من حديث علي بن أبي طالب -في استفتاح النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- في صلاة الليل-: [أنت ربي وأنا عبدك، ظلمت نفسي واعترفتُ بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعًا، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، واهدني لأحسنِ الأخلاق، لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عني سيئها، لا يصرف عني سيئها إلا أنت، لَبَّيْكَ وسَعْدَيْكَ، والخيرُ كُلُّهُ في يَدْيكَ، والشَّرُ ليس إليك، أنا بِكَ وإليكَ] الحديث (٢).
فقوله: "والشرّ ليس إليك" يمثل تأدبًا رفيعًا مع اللَّه سبحانه، فهو ينسب الذنب والتقصير والمصائب لنفسه مع أن الكل من خلق اللَّه وتقديره.
الحديث الثاني: أخرج البخاري في صحيحه عن شداد بن أوس رضي اللَّه عنه، عن النبي -صلى اللَّه عليه وسلم- قال: [سَيِّدُ الاستغفار أن يقول العبد: اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك وَوَعْدِك ما استطعت، أعوذ بك من شَرِّ ما صَنَعْتَ، أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت. من قالها من النهار موقنًا بها، فمات من يومه قبل أن يمسي فهو من أهل الجنة، ومن قالها من الليل

(١) ذكره ابن القيم في مدارج السالكين. وانظر كتابي: "أصل الدين والإيمان" (١/ ٣٠٧ - ٣٠٨).
(٢) حديث صحيح. رواه مسلم (٧٧١)، كتاب صلاة المسافرين. وهو جزء من حديث أطول.


الصفحة التالية
Icon