قال القاسمي: (أي ينفق ماله في سبيل الخير، يتزكى عن رجس البخل ودانس الإمساك).
وقوله تعالى: ﴿وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى﴾. أي: إنه لا يتصدّق بماله ليجازي بصدقته نعمةً لأحد من الناس عنده ويكافئه عليها.
وقوله تعالى: ﴿إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى﴾. قال قتادة: (يقول: ليس به مثابة الناس ولا مجازاتهم، إنما عطيته للَّه).
وقوله تعالى: ﴿وَلَسَوْفَ يَرْضَى﴾. أي: وتاللَّه لسوف يرضى هذا المؤتي ماله في حقوق اللَّه عز وجل يتزكى بذلك، إذا لقي ربه تبارك وتعالى، مما يلقى من رفيع الكرامة وعظيم الجزاء وروعة الاستقبال.
قلت: والجمهور على أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر رضي اللَّه عنه، وهذا حق تدل عليه الآثار والنصوص العطرة، وإن كانت الآيات بعمومها تشمل كل مماثل بالبذل والصدق والجهاد.
لقد كان أبو بكر بحقٍ فارس البذل في سبيل اللَّه لاستنقاذ المؤمنين الأوائل من التعذيب والاضطهاد، فلقد اشترى بلالًا فأعتقه كما يروي البخاري. وروى ابن أبي شيبة عن قيس بن أبي حازم قال: (اشترى أبو بكر بلالًا بخمس أواق وهو مدفون بالحجارة. قالوا: لو أبيت إلا أوقية لبعنا، فقال لو أبيتم إلا مئة أوقية لأخذته) وهو مرسل صحيح (١).
ويذكر إمام أهل المغازي عروة بن الزبير فيقول: (أعتق أبو بكر رضي اللَّه عنه ممّن يعذَّبُ في اللَّه سبعة: عامِرُ بن فُهيرة، وبلال، ونُذيرة، وأم عُبيس، والنَّهدية، وأختها، وجارية بني عمرو بن مؤمل) (٢).
ثم ذكر عروة: (أنّ أبا بكر مَرَّ بالنّهدية ومولاتها تعذبها تقول: واللَّه لا أُعْتِقُك حتى تعتقك حياتُك. فقال أبو بكر: فبكم؟ قالت: بكذا وكذا، فقال: قد أخذتها وأعتقتها) (٣).

(١) أخرجه ابن أبي شيبة في "المصنف" (١٤/ ٣١٢)، بإسناد صحيح.
(٢) انظر مصنف ابن أبي شيبة (١٢/ ١٠) بسند مرسل صحيح. فهو صحيح الإسناد لعروة، والذي كان يأخذ غالبًا هذه الأخبار من خالته عائشة، فمراسيله في السيرة قوية.
(٣) أورده ابن إسحاق في "السير والمغازي" (١٩١) من مرسل عروة. وانظر تفصيل البحث في كتابي: السيرة النبوية على منهج الوحيين (بحث ١٣) (١/ ٢٢٠).


الصفحة التالية
Icon